وكالة أنباء الحوزة - إن ظاهرة اختفاء الأشخاص أو الأشياء، واختفاء أفعال الإنسان عن أعين الناظرين، ليست أمرًا مستجدًا في سجل معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء والصالحين، بل لها سوابق متكررة.
ودليل ذلك ما ورد في تفسير الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ (الإسراء: 45).
فإلى جانب الدلالة الظاهرة للآية على أن الله تعالى كان يحجب رسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله) عن أنظار الكفار الذين كانوا يعتزمون إيذاءه أثناء تلاوته للقرآن، يذكر بعض التفاسير أن الله كان يُخفي النبي (صلى الله عليه وآله) عن أشخاص مثل أبي سفيان والنضر بن الحارث وأبي جهل وأم جميل (حمالة الحطب)، فكانوا يمرون بجواره دون أن يروه. (الطبرسي، مجمع البيان، ج6، ص645؛ السيوطي، الدر المنثور، ج4، ص186)
ويروي ابن هشام في "السيرة" حكاية عن اختباء النبي (صلى الله عليه وآله) عن نظر أم جميل، منتهيًا بقول النبي: «لقد أخذ الله ببصرها عني». (ابن هشام، ج1، ص238)
كما تذكر المصادر التاريخية الموثقة أنه أثناء الهجرة من مكة إلى المدينة، لم يتمكن المشركون - الذين تجمعوا أمام باب دار النبي (صلى الله عليه وآله) لاغتياله - من رؤيته حين خرج، بعد أن أمر الإمامَ عليًا (عليه السلام) بالنوم في فراشه، حيث نثر على رؤوسهم حفنة من التراب وتلا آيات من سورة "يس" حتى ﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾، فمرّ من بينهم دون أن يلحظه أحد. (ابن هشام، ج2، ص333؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص227-228؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص103)
ويضيف تفسير "الدر المنثور" رواية مطولة بهذا الشأن، ينقلها الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن آبائه المعصومين.
كما تورد كتب التفسير، لدى شرحها للآية ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (يس: 9)، روايات عديدة تؤكد هذا المعنى. (الطوسي، التبيان، ج8، ص446؛ الطبرسي، مجمع البيان، ج8، ص649–650؛ السيوطي، الدر المنثور، ج5، ص258–259)
ويشهد تاريخ الأئمة (عليهم السلام) على وقائع مماثلة، كاختفاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن عمّال عبد الملك بن مروان، وهي حادثة يرويها علماء الفريقين، بما فيهم ابن حجر الهيتمي. (الصواعق المحرقة، ص200)
وبناء عليه، فإن قضية اختفاء الأشخاص هي قضية واقعية وموثقة.
أما إخفاء الهوية وعدم القدرة على التعرف على الشخص دون اختفاء جسده، فهو أمر شائع وبسيط، ولا يتطلب عادةً معجزة أو خرقًا للعادة، إذ كثيرًا ما نرى أشخاصًا دون أن نعرف هوياتهم.
وبالعودة إلى السؤال الرئيس، يمكن القول: إن غيبة الإمام (عليه السلام) تحقق أهدافها وفلسفتها - من إخفاء أمره وحمايته من التعرض له - في كلتا الحالتين. بيد أن استقراء مجموع الروايات وحكايات اللقاء به (عليه السلام) يشير إلى أن غيبته تجمع بين الشكلين: تارة يختفي جسده عن الأنظار، وتارة أخرى يكون حاضرا ولكن غير معروف الهوية. بل قد يجتمع الأمران في وقت واحد، حيث يراه أحدهم دون أن يعرفه، بينما لا يراه آخر على الإطلاق، كما حصل مع النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض الوقائع السابقة.
والملاحَظ أن اختفاء الجسد يتطلب بالضرورة خرقًا للعادة ومعجزة إلهية، بينما إخفاء الهوية يمكن أن يحدث بطريقة طبيعية، وإن كانت استمراريته أحيانًا تتطلب تدخلًا إلهيًا لحماية الإمام من الفضول والاكتشاف. والله القادر على كل شيء يوفر جميع السبل - العادية وغير العادية - لحفظ وليه، بما يحقق المشيئة الإلهية والمصلحة العليا.
وللحديث بقية ستأتي في الأجزاء التالية إن شاء الله.. والجدير بالذكر أن هذا الجزء مُقتبس من كتاب "پاسخ به ده پرسش پیرامون امامت" (الإجابة على عشرة أسئلة حول الإمامة) لآية الله لطف الله صافي الكلبايكاني مع بعض التعديلات.
لمراجعة المبحث باللغة الفارسية اضغط هنا.
المحرر: أ. د
المصدر: وكالة أنباء الحوزة
تعليقك