الاثنين 10 نوفمبر 2025 - 11:29
الأدلة النقلية على ولاية الفقيه في عصر الغيبة (2)

وكالة الحوزة - تُعدّ ولاية الفقيه امتداداً لولاية النبي الأكرم والأئمة من بعده (عليهم الصلاة والسلام) في عصر غيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، حيث ينيب الفقيه العادل الجامع للشرائط مكانهم لقيادة الأمة وضمان استمرار الحكم الإسلامي، مستنداً في ذلك إلى أدلة نقلية وعقلية رصينة.

وكالة أنباء الحوزة - تمثّل النصوص الروائية عن الأئمة (عليهم السلام) الدعامة الأساسية لأدلة ولاية الفقيه. وبعد أن استعرضنا في الجزء السابق توقيع الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، ننتقل في هذا الجزء إلى دليل نقلي آخر.

مقبولة عمر بن حنظلة

من الروايات التي استند إليها الفقهاء لإثبات ولاية الفقيه، رواية ينقلها عمر بن حنظلة (1)، حيث يقول: سألت الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا اختلف رجلان من شيعتنا في دَيْن أو ميراث، أ يحلّ لهما أن يتحاكما إلى السلطان [الجائر] أو القاضي [المعيّن من قبله]؟» فأجاب الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً وَإِنْ كَانَ حَقّاً ثَابِتاً لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‌ ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60]. يقول عمر بن حنظلة: فلما رأيت الإمام يحرم التحاكم إلى حكام الجور وقضاتهم بهذه الشدة، سألته: «فكيف يصنعان؟» فقال الإمام (عليه السلام): «يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللَّهِ وَعَلَيْنَا رَدَّ وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ» (الكافي، ج1، ص67)

في هذه الرواية الشريفة عدة نقاط مهمة وأساسية:

1- تحريم المراجعة إلى الحكام الجائرين: لا يجوز في النزاعات الرجوع إلى الحاكم الجائر أو القاضي المعيّن من قبله؛ لأن القرآن والسنة حرّما ذلك.

2 - الرجوع إلى رواة الحديث والعارفين بأحكام الأئمة: أمر الإمام الصادق (عليه السلام) بالرجوع في مثل هذه الحالات إلى "من روى أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم". ومن الواضح أنَّ هذه الصفات لا تتحقَّق بكمالها إلّا في الفقيه المجتهد.

3 - شمول ولاية الفقيه: وإن كان مورد السؤال هو النزاع بين طرفين، إلا أن الإمام الصادق (عليه السلام) ختم الرواية بقاعدة عامة وشاملة حيث قال: «فإني قد جعلته عليكم حاكماً». فبهذا البيان عرّف الإمام الفقيه كـ"حاكم" بين الشيعة، والحاكم هو من له الولاية والسلطة على الآخرين، يتولى أمورهم ويدير شؤونهم.

4 - وجوب قبول حكم الفقيه: أكد الإمام (عليه السلام) أنه إذا حكم هذا الحاكم - المنصوب من قبله - وجب الانصياع لحكمه وقبوله، ورفضُه يعني رفض حكم الإمام، ورَدُّ حكم الإمام هو رَدٌّ لحكم الله. وقد جعل الإمام بهذا البيان العام الفقيهَ حجة على الناس في جميع الأحكام (الفردية والاجتماعية، القضائية وغير القضائية).

أقوال بعض الفقهاء

يقول الشيخ محمد حسن النجفي (ت 1266 هـ . ق) (2) في كتابه "جواهر الكلام" ما محصّله: «نصبُ الفقهاء يشمل جميع الأمور، بحيث لا فرق بين الإمام (عليه السلام) والفقيه في شيء منها. ويستفاد من قول الإمام: "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" أن للفقيه ولاية التصرف في القضاء وسائر الشؤون. ويؤيد هذا ما ورد في توقيع الإمام المهدي (عجل الله فرجه): "فإنهم حجتي عليكم"، أي إنّ الفقهاء حجة في كل ما أنا حجة فيه، إلا ما أخرجه الدليل». (3)

ويقول الشيخ مرتضى الأنصاري (ت 1281 هـ . ق) (4) في كتاب "القضاء والشهادات" ما محصّله: «المفهوم من لفظ "حاكماً" في مقبولة عمر بن حنظلة هو "المتسلط المطلق". فقول الإمام: "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" يشبه قول السلطان أو الحاكم لأهل المدينة: "إني جعلت فلاناً حاكماً عليكم". فيُفهم من هذا التعبير أن السلطان قد سلّط ذلك الشخص على جميع شؤون الناس الكلية والجزئية التي ترجع إلى الحكم». (5)

وممّا تقدم ‌ذكره، يتبين بكل وضوح أن ولاية الفقيه تستمد مشروعيتها من النصب الصادر عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، حيث نُصِبَ الفقيه حاكماً على الناس وحجةً عليهم عبر نصوص متعددة، منها توقيع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ومقبولة عمر بن حنظلة الصادرة عن الإمام الصادق (عليه السلام). وعليه، فإن ولاية الفقيه على الناس قائمة بنصب الإمام المعصوم.

نعم، إن قبول الفقيه في ولايته وإمكانية تنفيذ هذه الولاية وتطبيقها، مرتبط بإقبال الناس وقبولهم لولاية الفقيه.

وللحديث بقية ستأتي في الأجزاء التالية إن شاء الله.. والجدير بالذكر أن هذا الجزء مُقتبس من كتاب "نگین آفرینش" (جوهرة الخلق) مع بعض التعديلات.


الهوامش:

(1) عمر بن حنظلة من أصحاب الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام)، وهو من الرواة المشهورين، حتى إن كبار الأصحاب مثل زرارة وهشام بن سالم وصفوان بن يحيى وغيرهم قد رووا عنه.

(2) الشيخ محمد حسن النجفي هو أحد أعمدة الفقه الجعفري، وألّف الموسوعة الفقهية الكبيرة والفريدة "جواهر الكلام" في 43 مجلدًا. وقد أصبح هذا الكتاب منذ عقود مصدرًا هامًا ومرجعًا أساسيًا لفقهاء الشيعة في الحوزات العلمية.

(3) يقول الشيخ محمد حسن النجفي (رحمه الله): «...وكيف كان فقد قيل - والقائل الإسكافي والشيخان والديلمي والفاضل والشهيدان والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري والكاشاني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم - يجوز للفقهاء العارفين بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية العدول إقامة الحدود في حال غيبة الإمام (عليه السلام) كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك كما يجب مساعدة الإمام (عليه السلام) عليه، بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس، ولم نتحققه... فمن الغريب بعد ذلك ظهور التوقف فيه من المصنف [المحقق الحلي] وبعض كتب الفاضل [لا] سيما بعد وضوح دليله الذي هو‌ قول الصادق (عليه السلام) في مقبول عمر بن حنظلة: "انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلترضوا به حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا راد على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله عز وجل"... وقول صاحب الزمان (روحي له الفداء وعجل الله فرجه) في التوقيع المنقول عنه: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"... أو لظهور‌ قوله (عليه السلام): "فإني قد جعلته عليكم حاكما" في إرادة الولاية العامة... بل قوله (عليه السلام): "فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله" أشد ظهورًا في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكم، ومنها إقامة الحدود،... بل لو لا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة... وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة...» (جواهر الكلام ج21 ص 393- 397)

(4) الشيخ مرتضى الأنصاري هو من كبار علماء الشيعة الاثنا عشرية، استلم المرجعية العامة وزعامة الشيعة بعد وفاة صاحب كتاب جواهر الكلام، فصار يُرجع إليه في شؤون التقليد والفقه من قبل جمهور الشيعة في زمانه. ومن مؤلفاته كتابا المكاسب المحرمة وفرائد الأصول ويعدّان من المناهج الدراسية في الحوزات العلمية.

(5) يقول الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله): "...ثم إنّ الظاهر من الروايات المتقدمة [ومنها رواية عمر بن حنظلة] نفوذ حكم الفقيه في جميع خصوصيات الأحكام الشرعية وفي موضوعاتها الخاصة، بالنسبة إلى ترتّب الأحكام عليها، لأنّ المتبادر عرفًا من لفظ «الحاكم» هو المتسلّط على الإطلاق، فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة: جعلتُ فلانًا حاكمًا عليكم، حيث يُفهم منه تسلّطه على الرعيّة في جميع ما له دخل في أوامر السلطان جزئيًا أو كلّيًا...". (القضاء والشهادات، ج 1، ص 48)

لمراجعة المبحث باللغة الفارسية يرجى الضغظ هنا.

المحرر: أ. د

المصدر: وكالة أنباء الحوزة

سمات

تعليقك

You are replying to: .
captcha