۲۶ شهریور ۱۴۰۳ |۱۲ ربیع‌الاول ۱۴۴۶ | Sep 16, 2024
رمز الخبر: 370661
١٩ يوليو ٢٠٢٤ - ٢٢:٢٧
علم فلسطين

وكالة الحوزة - الأطماع الاستعمارية تستولي على كيان المستعمرين وتميت ضمائرهم، وتتحول إلى عقائد وأساطير تبرر حرب الإبادة التي يشنونها على غيرهم، ويستخدمون فيها كل ما يستطيعون به أن يتستروا ويتلونوا ويروجوا أكاذيبهم ويخفوا أطماعهم..

وكالة أنباء الحوزة - التصدي للخلط الذي لايزال دائرا بين الأسطورة والتاريخ ضروري، لأن هذا الخلط لا يقتصر على كتابة مزور يرضى به بعض المؤرخين حاجتهم لرسم صورة الماضي، كما يتخيلون أو كما يفضلون، أو كما يفرضه عليهم جهلهم وانحيازهم، وإنما يتجاوز الخلط حدود الماضي، وينتقل إلى الحاضر، ولا يقف عند تزوير التاريخ، وإنما يجعل التاريخ المزور أساسا لواقع مزور يفرضه من زوروه على العالم، وعلينا نحن وعلى الفلسطينيين الذين يدفعون ثمن هذا التزوير من وطنهم الذي اغتصب، ومن دمائهم التي تسيل، وهذا ما نراه في غزة، وما رأيناه في كل فلسطين التي تحولت زورا وبهتانا إلى مستعمرة صهيونية عدوانية سموها «إسرائيل».

بل إن الخلط يتجاوز كل الحدود، ويصبح رفضا للتاريخ وإحلالا للأسطورة محله، لأن التسليم بوجوده، ولو مختلطا بغيره يجعله طرفا في حاضر يريد صناعه أن يكون خالصا لهم وحدهم، وهذا ما دفع الصهيونيين لاعتبار الأعوام الألفين التي قضوها بعد خروجهم من فلسطين وتفرقهم في أنحاء العالم «دياسبورا» أي شتاتا كانوا فيه منفيين في تاريخ الآخرين، وكما أنهم أو معظمهم ينكرون تاريخهم هذا الذي انعزلوا فيه عن غيرهم ورفضوا الاندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها، فهم ينكرون بالطبع تاريخ الفلسطينيين الذي بدأ منذ خمسة آلاف عام، ولم ينقطع إلى اليوم، ويعتبرون أنفسهم أحق بفلسطين التي اعتبروها في أساطيرهم «أرضا بلا شعب» فهي لهم، لأنهم «شعب بلا وطن»!.

هذا الرفض للتاريخ وإحلال الأساطير محله أو خلطه بها نجده عند الأمريكيين، كما نجده عند اليهود الصهيونيين، فالأمريكيون أيضا، بدأوا وجودهم في أمريكا بالأسطورة التي ميزوا بها أنفسهم عن المسيحيين الكاثوليك، وحتى عن المسيحيين البروتستانت، لأنهم يلتزمون في عقيدتهم الدينية، وفي حياتهم أمورا يعتقدون أنهم يعودون بها إلى المسيحية الأصلية، ولهذا سموا أنفسهم «البيوريتان» أي المتطهرين، يتطهرون مما يعتبرونه دخيلا على المسيحية في الطقوس الدينية، وحتى في أردية رجال الدين ورتبهم الكنسية، وبهذا يعتبرون الماضي فسادا لا يعترفون به، ويبدأون تاريخا جديدا يبنون فيه فردوسهم الأرضي أو مدينتهم الفاضلة التي وجدوا أن من حقهم فيها أن يطهروها من الهنود الحمر، وأن يملوا إرادتهم وسياستهم على العالم كله، كأنهم أولو الأمر فيه من شماله لجنوبه، ومن غربه لشرقه، ويعتبروا الآخرين رعايا متخلفين فعليهم أن يسمعوا لهم ويطيعوا.

وفي كتاب الدكتور عبدالوهاب المسيري عن الحضارة الأمريكية أمثلة من الجرائم البشعة التي ارتكبها الأمريكيون في أنحاء العالم باسم هذا التطهر الذي يدعونه لأنفسهم.

الجنود الأمريكيون الذين أرسلوا إلى فيتنام ليقتلوا الثوار الشماليين كانوا في نظر رجال الدين الأمريكان «جنود المسيح»، والقرى الفيتنامية التي دمروها كان تدميرها «إنقاذا لها»! ولاشك في أنهم اعتبروا ما صنعوه في هيروشيما تطهيرا وإنقاذا لها، وكذلك ما صنعوه في العراق.

هكذا نستطيع أن نفسر علاقة إسرائيل بأمريكا وبالغرب عامة. الأطماع الاستعمارية تستولي على كيان المستعمرين وتميت ضمائرهم، وتتحول إلى عقائد وأساطير تبرر حرب الإبادة التي يشنونها على غيرهم، ويستخدمون فيها كل ما يستطيعون به أن يتستروا ويتلونوا ويروجوا أكاذيبهم ويخفوا أطماعهم، كما يفعل هؤلاء القتلة المحترفون الذين لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة يصلون بها إلى ما يطمعون في الحصول عليه مهما بلغت من التوحش والهمجية، في الوقت الذي يتحدثون فيه هم وأمثالهم في دول الغرب عن الحضارة، والسلام العالمي، والأمن، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، فإذا اعترض معترض أو عبر عن رأي مخالف قوطع وحوصر وحوكم وأدين، كما حدث للمفكر الفرنسي روجيه جارودي.

روجيه جارودي أصدر كتابا تحدث فيه عن «الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية» فقدم للمحاكمة بتهمة إنكاره الجرائم التي ارتكبها النازيون ضد اليهود.

وأنا لم أقرأ هذا الكتاب، وإنما قرأت عنه ملخصا لا يسمح بالحكم عليه، لكني فهمت أن جارودي يميز في كتابه بين اليهودية كدين سماوي، وبين الصهيونية باعتبارها حركة سياسية.. وهو في هذا يتفق مع جماعات من اليهود الذين يعتبرون الصهيونية نوعا من الإلحاد، لأن عودة اليهود إلى فلسطين لا تكون في عقيدتهم إلا بعد ظهور المسيح الذي سوف يعود بهم إلى أرض الميعاد، وهو في رأيهم لم يظهر بعد، وجارودي يرى أيضا، كما فهمت أن اليهود يبالغون في تقدير أعداد ضحاياهم الذين سقطوا بيد هتلر، كما أن هناك في المقابل أن جارودي فعل العكس، فبالغ في التقليل من عدد هؤلاء الضحايا، اليهود يقدرون عدد ضحاياهم بستة ملايين، وجارودي يقول إنهم ثلاثة ملايين أو أربعة.. ومع أن اليهود الصهيونيين يصنعون مع الفلسطينيين ما صنعه هتلر معهم، فنحن لا نفهم معنى لتقليل جارودي من عدد ضحاياهم، وسوف نفترض أن ضحايا النازي لم يكونوا ستة ملايين، كما يقول اليهود وإنما كانوا ثلاثة ملايين فقط، كما يقول غيرهم، هل تكون الجريمة في هذه الحالة أقل هولا وبربرية؟ لقد تعلمنا من القرآن الكريم الذي أصبح جارودي يؤمن بما جاء فيه بعد أن أعلن إسلامه ـ تعلمنا منه «أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا». لكن جارودي نطق بالحق حين قال إن الأساس الذي قامت عليه الصهيونية أساطير، وإذا كنا نستهول جرائم النازي مع اليهودي، فنحن نستهول معها جرائم الصهيونيين مع الفلسطينيين، وهي أكثر توحشا ودموية وانحطاطا، لأنها طقس يومي متواصل بدأ منذ مائة عام واستمر إلى هذه الساعة، ولقد هب العالم كله واقفا في وجه هتلر، أما نيتانياهو ومن معه، ومن سبقه، ومن سيلحقه من القتلة السفاحين، فلا يتصدى لهم إلا ضحاياهم الذين لا يملكون في دفاعهم عن أنفسهم إلا أجسادهم البريئة وأرواحهم الطاهرة.

> > >

غير أن الضمير العالمي بدأ يستيقظ، ونحن نرى الآن مناخا إنسانيا جديدا وقوى شابة تظهر في العالم، وفي عواصم الغرب كلها وترفع صوتها عاليا وتفضح أكاذيب السلطات الحاكمة في بلادها، وتعد بمستقبل عادل يعود فيه الفلسطينيون لوطنهم، وتعود فيه فلسطين لأهلها. هذا المستقبل لن يجيء، ونحن قاعدون في انتظاره، وإنما سيكون ثمرة لنشاط فكري وسياسي متواصل يضيئه ويبشر به، ويفتح له أمامه الطريق، ويصل بيننا وبين المؤهلين لرفع رايته معنا في العالم كله، لأنه لن يكون مستقبلنا وحدنا، وإنما سيكون مستقبل البشرية، كلها.

الكاتب: أحمد عبدالمعطي حجازي

المصدر: الأهرام

ارسال التعليق

You are replying to: .