الخميس 16 أكتوبر 2025 - 22:27
مذكرة تحليلية.. حبل الوحدة وسكين التفرقة

وكالة الحوزة - تُؤكِّد الدراسات أن الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب يمثلان ضمانة أساسية للقوة والنهضة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تهدد كيان الأمة. تناقش هذه المذكرة التحليلية السبل العملية لتحقيق هذا الهدف.

وكالة أنباء الحوزة - في منظومة الفكر الإسلامي، يُعَد مفهوم "وحدة الأمة" أحد المبادئ الأساسية والاستراتيجية التي تلعب دورًا حيويًا في الحفاظ على بقاء وعزة وتقدم المجتمعات الإسلامية حضاريًا. يشهد تاريخ الإسلام على حقيقة أن التضامن والتمسك بالمحاور المشتركة للعقيدة، لا سيما القرآن الكريم والسنة النبوية، كان دائمًا سببًا لازدهار علمي وثقافي واجتماعي. وفي المقابل، فإن ظهور وتعميق الانقسامات الطائفية، سواء نتيجة الجهل الداخلي أو بتحريض من العوامل الخارجية، كان سببًا في إضعاف القوة الجماعية وتهيئة الساحة لهيمنة القوى الأجنبية. في العصر الحالي، حيث يواجه العالم الإسلامي تحديات معقدة في المجالات الإعلامية والاقتصادية والجيوسياسية، باتت إعادة قراءة وتوضيح المشروع العلمي "للتقارب بين المذاهب الإسلامية" ضرورة لا غنى عنها لتحقيق مستقبل أفضل.

1. الأسس الوجودية والكلامية للوحدة في النصوص الإسلامية

تتجذر الأسس النظرية لأهمية الوحدة في النصوص المقدسة الإسلامية. يدعو القرآن الكريم بوضوح الأمة الإسلامية إلى التمسك بـ"حبل الله" وتجنب التفرقة: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا". هذه الدعوة ليست مجرد توصية أخلاقية، بل هي أمر إلهي وأصل اجتماعي لاستقرار وقوة المجتمع الإيماني.

إن "حبل الله" هو بمثابة محور متعالٍ يربط جميع أفراد الأمة ببعضهم البعض، والانفصال عنه يؤدي إلى التفرقة وانحلال الهوية الجماعية. الأخوة القائمة على الإيمان تشكل الأساس الهيكلي للمجتمع الإسلامي، مما يمكنها من تجاوز الفروقات القومية واللغوية وحتى الفقهية.

2. توضيح مفهوم "التقريب": منهجية التوافق في ظل التنوع

أمام التنوع والاختلاف بين المدارس الفقهية والكلامية في العالم الإسلامي، ظهرت فكرة "التقريب" كحل ذكي وعملي. التقريب يعني تعزيز التقارب والتعاون بين المذاهب الإسلامية استنادًا إلى المبادئ المشتركة والأساسية (أصول الدين) وإدارة الاختلافات في الفروع الفقهية (فروع الدين) بطريقة محترمة.

هذا النهج لا يهدف إلى إلغاء أو دمج المذاهب في بعضها البعض، بل يهدف إلى تقليل سوء الفهم، وتقريب وجهات النظر، وتعزيز القدرات المشتركة لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية. إن تأسيس مؤسسات مثل "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" في مصر، ومن ثم مؤسسات مشابهة في دول أخرى، كان جهدًا منظمًا لتحقيق هذه الفكرة.

3. تحليل أسباب التفرقة: عوامل داخلية وخارجية

تعد ظاهرة التفرقة في العالم الإسلامي ناتجة عن فئتين من العوامل:

العوامل الداخلية: الجهل بالمبادئ الاعتقادية والفقهية للآخرين، والتعصبات المذهبية العمياء، والتبعية للتيارات المتطرفة التي تستخدم أدوات «التكفير» و«السب واللعن» لتحريك المشاعر المذهبية، مما يغذي دائرة الكراهية والعنف. هذه السلوكيات، حتى لو تمت بنية الدفاع عن العقيدة، تؤدي عملياً إلى تشويه الصورة الرحمانية للإسلام على المستوى العالمي، وتلحق أكبر ضرر بمبدأ الدين نفسه.

العوامل الخارجية: استغلت القوى الاستعمارية والاستكبارية دائماً الانقسامات المذهبية كأكثر الأدوات فعالية لإضعاف المجتمعات المسلمة والسيطرة على مواردها. تستخدم هذه القوى الأدوات الإعلامية الحديثة والدعم المالي للتيارات المسببة للفرقة، لتأجيج نيران الخلافات، ومنع تشكيل جبهة إسلامية موحدة. إن الإغفال عن هذه التدخلات الخارجية يجعل تحليل ظاهرة التفرقة ناقصاً وغير فعال.

4. التمييز بين الاختلاف العلمي والعداوة الطائفية

من النقاط الأساسية في النقاش حول التقريب هو التمييز بين "الاختلاف العلمي" و"العداوة الطائفية". الاختلاف في الآراء حول القضايا الفقهية والكلامية هو أمر طبيعي ويعكس حيوية وغنى الفكر الإسلامي. كانت المدارس والحوزات العلمية الشيعية والسنية على مدار قرون مكانًا للنقاشات العلمية. النهج التقريبي يدعو إلى الاعتراف بهذه الاختلافات مع التأكيد على أنها لا يجب أن تتحول إلى مستوى المجتمع لتصبح أداة للتحريض على العداوة والكراهية. احترام عقائد ومقدسات الآخرين وحفظ كرامة أتباع المذاهب المختلفة هو شرط أساسي للتعايش السلمي والتعاون البناء.

5. التقريب كمشروع حضاري

في المنظور الكلي، لا يمثل التقريب مجرد مشروع كلامي أو فقهي، بل هو خطة حضارية-سياسية لإحياء عزّة الأمة الإسلامية وفعاليتها في العالم المعاصر. لن يكون الوصول إلى أهداف كبرى مثل «الحضارة الإسلامية الحديثة» ممكناً دون التأسيس على الوحدة والتقارب. إن الوحدة الإسلامية تمهد الطريق لتعاون واسع في المجالات العلمية والاقتصادية والثقافية بين الأمم المسلمة، وتربط حركات الصحوة الإسلامية في جميع أنحاء العالم ببعضها البعض. هذا التضافر هو رأسمال اجتماعي عظيم يمكن أن يضع الأمة الإسلامية على مسار التقدم والرقي.

6. من النظرية إلى التطبيق: ترسيخ الوحدة في المجتمع

الفعالية الحقيقية لخطاب التقريب تعتمد على تجاوزه حدود النخب الفكرية ليترسخ في طبقات المجتمع المختلفة. تتحقق الوحدة عندما تصبح ثقافة عامة؛ كأن يقف المسلم الشيعي والسني جنبًا إلى جنب في الدفاع عن قضايا مشتركة مثل تحرير فلسطين، أو يتعاون الطلاب والخبراء المسلمون من دول مختلفة في مشاريع علمية مشتركة. هذا الأخوّة العملية هي التجسيد الحقيقي للإيمان بوحدة الأمة.

7. مسؤولية النخب ووسائل الإعلام في حماية الوحدة

النخب الفكرية والعلماء والفنانون ووسائل الإعلام يتحملون مسؤولية كبيرة. وسائل الإعلام يمكن أن تكون أداة لتعميق الانقسامات من خلال نشر محتوى مشوه ومسيء، أو على العكس، يمكنها أن تكون جسرًا للتواصل بين المذاهب عبر الترويج "للغة الوحدة" بطرق متنوعة. إن مفهوم "حبل الوحدة" مقابل "سكين التفرقة" يمثل أداة خطابية قوية لتوضيح هذا الخيار المصيري: إما التضامن من أجل الارتقاء الجماعي، أو التفرقة التي تؤدي إلى انهيار كيان الأمة.

الخاتمة

إن التقريب بين المذاهب الإسلامية ليس تكتيكاً سياسياً عابراً، بل هو استراتيجية دائمة مبنية على العقلانية الدينية والرؤية الحضارية المستقبلية. هذا النهج لا يعني تجاهل الاختلافات، بل يعني إدارتها بذكاء والتركيز على الاشتراكات الواسعة التي تربط الأمة الإسلامية ببعضها البعض. إن تحقيق هذه الغاية يتطلب ثلاثة عناصر رئيسية: الإيمان بالمبادئ الأساسية للإسلام، والمعرفة المتبادلة بين المذاهب، والعمل الجماعي لمواجهة التحديات المشتركة. إن صون حبل الوحدة وكبح سكين الفرقة، التي قد تكون أحياناً في يد أعداء لدودين وأحياناً في يد أصدقاء غير مدركين، هي مسؤولية تاريخية تقع على عاتق جميع المسلمين، وخاصة نخبهم الفكرية والثقافية. وفي ظل هذه الوحدة وحدها، يمكن للأمة الإسلامية أن تصل إلى المكانة اللائقة بها في العلم والأخلاق والعدل والروحانية، وتبني الحضارة الإسلامية الحديثة.

الكاتب: علي‌رضا مكتب‌دار (رئيس التحرير لأسبوعية الآفاق)

المصدر: وكالة أنباء الحوزة

سمات

تعليقك

You are replying to: .
captcha