وكالة أنباء الحوزة - «الصحافة هي نشر ما لا يريد البعض أن يُنشر، وما عدا ذلك فهو علاقات عامة»، هذه العبارة القصيرة والحادة لجورج أورويل تجد معناها الكامل اليوم في أزقة غزة الدامية. حيث يقف الصحفيون بالكاميرا والقلم فقط في مواجهة القنابل والصواريخ حتى لا يُخمد صوت الحقيقة. لقد استشهدوا، لكن صوتهم ما زال يصل إلى العالم.
الصحفيون؛ شهود وسط الدمار
في الأيام التي تُقصف فيها المستشفيات والمدارس وتنهار البيوت على رؤوس ساكنيها، يكون الصحفيون أول من يقتحم الركام. يوثقون بعيونهم صور الأطفال المغبرّين، صرخات الأمهات، وأجساد الضحايا المسجّاة. هذه الصور وثائق لا يريد أصحاب السلطة ولا الإعلام المتحالف مع الكيان الصهيوني أن يراها العالم. ولولا هذه الوثائق لاحتفظ التاريخ فقط بالرواية الكاذبة عن «حرب متكافئة». لكن اليوم لا يستطيع أحد إنكار أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية.
جريمة مضاعفة: إطفاء مصباح الحقيقة
الكيان الصهيوني لا يقتل المدنيين العزّل فحسب، بل يتعمد أيضاً استهداف الصحفيين. تُقصف بيوتهم، تُباد عائلاتهم، ويُغتالون وهم يغطّون الأحداث. ليست هذه «أخطاء عسكرية»، بل محاولة مدروسة لإطفاء مصباح الحقيقة.
🔴 وفق المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977) يُعتبر الصحفيون في النزاعات المسلحة «مدنيين» ويحظر استهدافهم ما لم يحملوا السلاح.
🔴 كما تحظر المادة 51 من البروتوكول نفسه أي هجوم متعمد ضد المدنيين.
🔴 ووفق المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) فإن استهداف الصحفيين المدنيين يُعد جريمة حرب.
ورغم وضوح هذه النصوص، استهدف الاحتلال الإسرائيلي الصحفيين مراراً وتكراراً. وهو ليس خرقاً فاضحاً للقانون الدولي فحسب، بل مثال واضح على جريمة حرب منهجية.
أسماء خالدة في الذاكرة
قائمة الشهداء من الصحفيين في غزة كتاب مفتوح للشجاعة والتضحية:
- شيرين أبو عاقلة: مراسلة قناة الجزيرة التي أُعدمت برصاصة مباشرة في الضفة الغربية رغم ارتدائها سترة الصحافة. هزّ استشهادها العالم وأثبت أن الاحتلال لا يتورع عن اغتيال الصحفيين البارزين.
- محمد قريقع: صحفي شاب وثّق مراراً دمار أحياء غزة قبل أن يُستشهد مع أسرته في قصف جوي.
- فاطمة حسونة: صحفية فلسطينية روت معاناة النساء والأطفال. استشهدت في شمال غزة وما زالت صورها تتداول في الإعلام.
- سامر أبو دقة: استُهدف بصاروخ أثناء بث مباشر. لحظاته الأخيرة تحوّلت إلى رمز لشجاعة صحفيي غزة.
- آيات خضرة: صحفية وناشطة إعلامية كان آخر ما كتبته عن الأطفال الجوعى في غزة قبل أن تستشهد في القصف.
- حمزة دحدوح: شاب من عائلة صحفية عُرف بصوته المتحمس في نقل رواية المقاومة، واستُشهد في قصف مباشر.
- مريم أبو دقة: صحفية كانت تقول: «نحن النساء الصحفيات صوت أمهات غزة». استشهادها أكد دور المرأة في نقل الحقيقة.
- شريف أبو شرف: وثّق مراراً قصف الأحياء السكنية. خلال بث مباشر أوقف الانفجار صوته، وبقيت نظرته الأخيرة للكاميرا شاهداً على شجاعته.
- ياسر مرتجى: مصوّر في الثلاثين من عمره، قُتل برصاص قنّاص إسرائيلي عام 2018 رغم ارتدائه سترة الصحافة. كتب قبل استشهاده: «أتمنى أن أرى غزة من السماء يوماً ما.» حلم بسيط تحقّق بالدم.
- إيسام مرتجى: شقيق ياسر، واصل التغطية بعد استشهاد أخيه حتى لحق به شهيداً.
- محمد أبو حصيرة: استُشهد مع أسرته في قصف منزله، ليؤكد أن حتى الجدران لا تحمي الصحفي في غزة.
- رشادين ياسر وأحمد أبو الهوى: استُهدفا عمداً أثناء التغطية المباشرة رغم ارتدائهما سترات الصحافة.
هذه فقط بعض الأسماء من عشرات الصحفيين الذين تحوّل دمهم إلى وثائق للتاريخ.
الصحافة كفعل مقاومة
في غزة، لم تعد الصحافة مجرد مهنة، بل غدت شكلاً من أشكال المقاومة المدنية. الصحفي يعرف أن كل مرة يشغّل فيها الكاميرا قد تكون الأخيرة في حياته، لكنه يواصل. هذه الشجاعة ليست واجباً مهنياً فقط، بل إيمان ورسالة. الصحفي الغزّي جندي في جبهة أخرى: جبهة الرواية. بالكلمة والصورة يقف في وجه ماكينة الدعاية الصهيونية التي تحاول تبرير المجازر تحت عنوان «الدفاع المشروع».
بين الحقيقة والكذب
لو لم يكن هناك صحفيون في غزة، لسمع العالم فقط رواية الاحتلال وحلفائه؛ تلك التي وصفها أورويل بأنها ليست صحافة بل علاقات عامة. لكن كل صورة من تحت الركام، وكل تقرير من مستشفى مدمر، وثيقة تفضح الأكاذيب. وعندما يسقط صحفي شهيداً أمام الكاميرا أثناء البث المباشر، يفهم العالم أن الحرب في غزة ليست على الأرض فقط، بل هي أيضاً حرب ضد الحقيقة.
وحدة مقدسة في العزلة
يعيش صحفيو غزة عزلة مقدسة. يعرفون أن كثيراً من الحكومات تفضّل أن تغمض عينيها عن الحقيقة، وأن كبريات وسائل الإعلام تحذف رواياتهم أو تهمّشها. ومع ذلك يواصلون التغطية، لأنهم يؤمنون أن الحقيقة ستجد طريقها يوماً ما. هذه العزلة ثمن باهظ للصحافة. لكن التاريخ أثبت أن لا حقيقة تُدفن إلى الأبد. دماء الصحفيين الشهداء في غزة هي الحبر الذي سيكتب به تاريخ الغد.
الصحافة والضمير العالمي
كل صورة من غزة جسر بين معاناة الناس وضمير العالم. الصحفيون الشهداء بنوا هذا الجسر بدمائهم. لقد أثبتوا أن الصحافة قد تكون الحد الفاصل بين الحياة والموت. استشهادهم أيقظ الضمير الإنساني، حتى خرجت آلاف الأصوات في عواصم العالم تندد بالمجازر. وهذه اليقظة مدينة قبل كل شيء لدماء الصحفيين الذين لم يسمحوا بدفن الحقيقة. ظنّ الاحتلال أنه بقتل الصحفيين سيخمد الحقيقة. لكن الحقيقة أن كل صحفي شهيد أصبح مصباحاً أبدياً. دماؤهم صرخة لا تُخمد، ووثيقة لا ينساها التاريخ. اليوم، إذا كان العالم يعرف شيئاً عن جرائم غزة، فذلك بفضل الصحفيين الذين كتبوا العناوين بدمائهم.
الكاتب: عليرضا مكتبدار (رئيس التحرير لمجلة «الآفاق»)
المصدر: وكالة أنباء الحوزة
تعليقك