الخميس 13 نوفمبر 2025 - 16:33
آية اللّه العظمى المظاهريّ: نهج البلاغة هو ميثاق الحكم العلويّ ودليل الأخلاق والسياسة.. وهو مصباح الهداية وخريطة طريق الحكم الإسلاميّ

وكالة الحوزة - صرّح المرجع الدينيّ، آية اللّه العظمى المظاهريّ، بأنّ كتاب «نهج البلاغة» الشريف، الذي لا شكّ أنّه إلى جانب القرآن الكريم طريقٌ واضحٌ للهداية، ليس مجرّد نهجٍ للتقوى والمعنويّة والأخلاق، بل هو أيضًا نهجٌ للحكم والسياسة، وهو وثيقةٌ شاملةٌ وخالدةٌ يُعدّ ميثاقًا للحكم العلويّ.

وكالة أنباء الحوزة - أكّد المرجع الدينيّ، سماحة آية اللّه حسين المظاهري، في رسالةٍ وجّهها إلى المؤتمر الدوليّ الرابع لنهج البلاغة تحت عنوان «طريق النجاة»، أنّ هذا الكتاب الشريف أوسع من أن يُختصر في التقوى فحسب، بل هو وثيقةٌ شاملةٌ للحُكم والسياسة. وجاء في نصّ رسالته ما يلي:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قال أمير المؤمنين وإمام المتّقين عليه أفضل صلوات المصلّين: «وَاللّهِ لَهِيَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ إمْرَتِكُمْ، إلاّ أنْ اُقِيمَ حَقًّا، أوْ أدْفَعَ بَاطِلاً».

إنّ فلسفة الحكم العلويّ تتلخّص في أصلين جوهريّين هما: «إقامة الحقّ» و«دفع الباطل»، وفي ظلّ هذين المبدأين الساميين تنتظم سائر واجبات الحكومة ومسؤوليّاتها.

فإنّ الحقّ والباطل، في رؤية أمير المؤمنين (عليه السلام)، هما طريقان مختلفان ومتضادّان؛ أحدهما طريقٌ واضحٌ يؤدّي إلى السعادة الدائمة، والآخر طريقٌ مظلمٌ ينتهي إلى الشقوة الملازمة: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ».

وحينما تقبّل أمير المؤمنين (عليه السلام) الحكم بإلحاحٍ من الناس وحضورهم، فقد صرّح بأنّه تقبّله لمواجهة الباطل المتمثّل في جور الظالمين، ولإقامة الحقّ المتمثّل في استرداد حقوق المظلومين، وإلّا فإنّ الدنيا وإمارتها، في نظره الثاقب، كانت أحقر من ماء أنف عنزةٍ: «أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقِرُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ».

وقد استشهد الإمام (عليه السلام) باللّه تعالى أنّ ما قام به طوال حكمه لم يكن رغبةً في سلطانٍ ولا سعيًا للحصول على شيءٍ من متاع الدنيا الدنيئة، بل كان بهدفٍ سامٍ هو إعادة معالم الدين، وإصلاح البلاد، وتأمين المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة، وباختصارٍ: إحياء الحقّ والعدل، وإبطال الباطل: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ».

وهكذا فإنّ الحكم العلويّ، وإن كان في مدّةٍ قصيرةٍ مليئةٍ بالتحدّيات، قدّم نموذجًا تاريخيًّا بارزًا لإقامة الحقّ ودفع الباطل، ومعيارًا واضحًا للعدل وحسن التّدبير ومركزيّة الأخلاق والمعنويّة في ممارسة الحكم، وهو بلا شكٍّ منهجٌ هادٍ لكلّ الساسة والحكّام، ومصدر إلهامٍ للمصلحين الذين يضعون القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة نصب أعينهم.

إنّ كتاب «نهج البلاغة» الشريف، الذي لا شكّ أنّه إلى جانب القرآن الكريم طريقٌ واضحٌ للهداية، ليس مجرّد نهجٍ للتقوى والمعنويّة والأخلاق، بل هو أيضًا نهجٌ للحكم والسياسة، وهو وثيقةٌ شاملةٌ وخالدةٌ يُعدّ ميثاقًا للحكم العلويّ.

لقد تجلّت في هذا الكتاب المقدّس جميع المبادئ والمؤشّرات الخاصّة بالحكم الرشيد والحكومة المستقرّة بأبهى صورةٍ، كما تحدّدت فيه القيم والأسس الراسخة للسياسة والحكم بالإضافة إلى الأساليب والأدوات اللازمة للحكومة. ومن هذا المنطلق، فإنّ المعرفة بهذه الصّحيفة المنشئة للإنسان والمجتمع، والالتزام النظريّ والعمليّ بتعاليمها ودروسها المحيية، أمرٌ لازمٌ ضروريٌّ حقًّا على جميع المسؤولين الحكوميّين والناشطين في الميدان السياسيّ.

وفي هذا الكتاب الجليل، وخاصةً في عهد مالك الأشتر، الذي يُعدّ وثيقةً خالدةً للحكم وميثاقًا سياسيًّا مشرفًا للإسلام، جرى تبيين جميع المبادئ المتعلّقة بحقوق الأمّة، وتحديد واجبات الحكومة ومسؤوليّاتها، وبيان كلّ ما يلزم في هذا المجال.

وفي هذا المجال الوجيز، سنشير فقط إلى خمس نقاط مهمّة في هذا الخصوص:

١) لقد حدّد أمير المؤمنين (عليه ‌السلام) المهمّة الأساسيّة للحكومة ومسؤوليّتها الرئيسة في أربعة ميادين، هي الاقتصاد، والأمن، وإصلاح شؤون الناس، وعمارة البلاد، ففي الجمل الافتتاحيّة للعهد، ومن خلال توضيح هذه الخطّة العامة، يبيّن في الحقيقة مسار مطالب الناس من الحكومة أيضًا: «هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا».

٢) إنّ العدل هو من الأركان البارزة للحكم العلويّ، حتّى ليصحّ القول بأنّ اسم الإمام عليّ (عليه السلام) المبارك قد ارتبط بالعدل ارتباطًا لا انفصام له. فعليٌّ «عليه السلام» هو الصوت المدوّي للعدل في تاريخ البشريّة، الذي قد بذل عمره وجهده كلّه في سبيل إقامة العدل وترسيخه. ومن وجهة نظره (عليه السلام)، لا يستطيع أحدٌ أن يلتزم بالعدل في الحكم والسياسة، وأن يحارب التمييز إِلّا من جسّد العدل في نفسه أوّلًا ولم تكن العدالة مجرّد لقلقة لسانٍ له:«أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ».

٣) لقد تمّ في الحكم العلويّ نهي المسؤولين الحكوميّين عن روح الاستكبار والاستعلاء، فحذّرهم الإمام (عليه السلام) من ثلاث عواقب وخيمةٍ لهذه الروح المذمومة، وهي: «الفساد الروحيّ» و«تزلزل الإيمان» و«تهيّؤ الأرضيّة لتغيير الحكم»: «وَلَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ»، بل وإنّ الحكومة العلويّة تُعرّف بأنّها حكمٌ يقوم على الرحمة والمحبّة واللطف بالرعيّة: «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سُبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ».

٤) إنّ الحكم العلويّ هو ميدان خدمةٍ صادقةٍ للأمّة، بلا منٍّ ولا تزيّدٍ ولا إخلاف الوعد: «وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الإحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللّهِ وَالنَّاسِ؛ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لاَ تَفْعَلُونَ﴾». ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شدّد الإمام (عليه السلام) على ضرورة العناية بالطبقات الضعيفة من الناسِ والفئات الهشّة منهم، الذين لا حيلة لهم ولا قوّة، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والمرضى، مؤكّدًا أنّهم أحقّ الناس بالرعاية والاهتمام: «اللّهَ اللّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً».

٥) إنّ الحكم والسياسة العلويّينِ يقومان على التركيز على الأصول والقضايا الجوهريّة ذات الأولويّة القطعيّة، والابتعاد عن المسائل الفرعيّة والهامشيّة من جهةٍ، وعلى اختيار الأكفاء والشرفاء وإقصاء الأراذل والأدنياء من جهةٍ أخرى. وممّا لا شكّ فيه، أنّ الأكفاء وحدهم هم القادرون على التمسّك بالقضايا الجوهريّة للبلاد والارتكاز عليها، بينما الأراذل لا يشغلهم إلّا الانغماس في الهوامش وإهمال الأولويّات. وقد صرّح أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «يُسْتدَلُّ عَلى إِدْبارِ الدُّوَلِ بِأَرْبَعٍ: تَضييعِ الأُصولِ وَالتَّمَسُّكِ بِالفُروعِ وَتَقديمِ الأَراذِلِ وَتَأخيرِ الأَفاضِلِ».

وبالجملة، فإنّ هذه هي المعالم البارزة للحكم العلويّ، الذي يُعدّ قدوةً يحتذى بها ومصدر إلهامٍ لجميع القائمين على شؤون الحكومة الدينيّة، ولكلّ العاملين في ميدان السياسة.

ومن المأمول أن يمنح اللّه سبحانه جميع العاملين في ميدان الحكم والسياسة توفيق فهم هذه التعاليم المحيية، والقيام بها، والالتزام العمليّ والنظريّ بمقتضياتها.

وختامًا أتقدّم بخالص الشكر والامتنان إلى جميع القائمين الأفاضل على تنظيم هذا المؤتمر، كما أرحّب ترحيبًا كريمًا بالضيوف الأعزّاء، راجيًا من اللّه تعالى أن يبلغ هذا المؤتمر أهدافه السامية، إن شاء اللّه تعالى.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

يُذْكَر أن حفلَ اختتامِ المؤتمر الدولي الرابع لنهج البلاغة أُقيم يوم الأربعاء 12 نوفمبر في مدينة أصفهان، بعد أن كان قد انطلق بصورة رمزية في 16 أكتوبر بكلمةٍ للرئيس مسعود بزشكيان.

لمراجعة الرسالة باللغة الفارسيّة يرجى الضغط هنا.

المحرر: أمين فتحي

المصدر: وكالة أنباء الحوزة

سمات

تعليقك

You are replying to: .
captcha