وكالة أنباء الحوزة ـ ألقى الأستاذ حسن رحيم بور أزغدي محاضرة تحت عنوان منهجية الإمام علي (عليه السلام) في الحكومة الإسلامية، وتطرق فيها إلى آراء الإمام (ع) في الحكم وقراراته فترة كان على سدة الحكم، وفيما يلي نقدم لكم نص المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا نبي الرحمة أبي القاسم محمد (صلی الله عليه و آله).
نظرية الحكومة الإسلامية من منظار الإمام علي عليه السلام
هل حقُّ الأمة منفصل عن حق الخالق؟ وهل هو قابلٌ للضمان أم لا؟ ومن يتولى وضعَ حق الأمة مقابل حق الرب ولماذا؟ ولماذا يتحدثونَ عن التعارض بين حق الرب والرعية وبين الاختيار والتوصيف وبين الناس والرب وبين الدين والحكومة وتارةً في أغلفةٍ دينية؟ ولنرى هل أنَّ المؤسسة الدينية بمعزلٍ عن المؤسسة الحاكمة في ألفاظ وتعابير أمير المؤمنين؟ ولماذا نرى الالتصاقَ بينَ كلمتي الله والخلق في تعابير الإمام على الدوام؟ ولكن لكلٍّ دليله والناس ليسوا في تعارضٍ مع وجود الله وسمعنا عن الإمام يتحدث عن حقوق الرعية ويربط حقها بحق الله سبحانه وتعالى.
ولنرى هل أنَّ النصوصَ الإسلامية هيَ في حقيقتها مُجْمَلَةٌ ومُبهمة وغيرُ قابلةٍ للوصول وبعيدة المنال ولها مئات القراءات؟ أم أنها على العكس واضحة وشفافة حددت للحاكمية حقوقاً وواجباتٍ ورَسَمَتْ له طريق العمل. ما هوَ الرابط بين القانون الشرعي والمدني؟ وما هوَ التعامل في تنصيب الرَّب واختيار الأمة في حكومة علي بن أبي طالب؟ وكيفَ يتمُّ الربطُ بين الأمر القدسي والعرفي وما هي الحساسية التي أبداها الدين لحقوق الرعية؟
قال الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة عن هذه المواضيع:
إنَّ الله سبحانه وتعالى فَصلَ بين حقوق الرعية وحقوقه، أرجو الالتفات إلى هذه النقطة فهي مورد الخلاف الرئيس بيننا وبين الفكر العلماني في إيران والعالم. فهم يَرون أنَّ حقوقَ الإنسان ربما تعارضت مع حقوق الخالق، هنا يقول الإمام علي عليه السلام: إنَّ حقوق الإنسان والرعية ناجمةٌ من أصل وجود حق الخالق فهو عليه السلام يقول: (ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا[1]). أي أن لا يكون البعض في المجتمع ذوي حقوقٍ والآخرون ذوي واجبات، أي أنَّ الأمر مرتبطٌ بالإخلاص والتوحيد.
لاحظوا كيفَ تجد حقوق الناس معناها في ظل التوحيد، لاحظوا أنَّ العلمانيين يقولونَ أنَّ حقَّ الله يتعارض وحقَّ الرعية، وللأسف هناكَ بعض المؤمنين السُّذَّج يُرددونَ هذا الكلام دونَ أن يفهموا معناه، لكنَّ هؤلاء على العكس، يركَلونَ حقوقَ الرعيَّة وهنا يقول الإمام عليه السلام إنَّ اللهَ سُبحانهُ وتعالى أحكمَ حقوقَ الرعية في إطار الإخلاص والإيمان والتوحيد. وسأتطرقُ ومن خلال الروايات إلى بيان الاتهامات التي ساقوها ضدَّ الدين والحكومة الدينية، وأرجو التدقيقَ في ذلك من زاوية ما سيتمُّ عرضه من الأحاديث والروايات.
فعندما كانَ الإمام يتهيأ إلى حرب صفين ويكتب إلى ولاتهِ في الأماكن الخاضعة للحكم، كان يؤكد أنَّ عليهم أن يجمعوا العددَ الكافي من المجاهدين للالتحاق بركب الإمام عليه السلام للمُضيّ في درب الجهاد. واحدةٌ من الرسائل كتبها الإمام إلى عامله في أصفهان ابنِ سليم العضدي حيثُ قال عليه السلام: (إنَّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذينَ عملوا في عباد الله بغير ما أنزلَ الله). لاحظوا أنَّ الإمام عندما يُضطرُّ لِاستخدام القوة فهو من أجل تطبيق العدل، حيث يقول عن السبب في ذلك، أي أننا نمضي لمحاربة من يتصرف بأموال بيت المال، ويقصد بذلكَ معاوية وزبانيته، فليسَ من حق هؤلاء أن يستفيدوا من هذه الأموال وهم لم يفعلوا شيئاً لخدمة المسلمين، فلو كانوا فعلوا فهنيئاً لهم، ولكنهم لم يفعلوا أي أنهم يُريدونَ إعادة الحياة للإقطاعية. كتبَ الإمام عليه السلام إلى عامله في أصفهان: اجمع من تستطيع من المقاتلين كي لا أبقى وحيداً في الحرب إننا نذهب لمحاربة من عطَّلوا الحدود وأماتوا الحقَّ وأظهروا الفساد في الأرض.
طريقة حكم الإمام عليه السلام
وحولَ طريقته عليه السلام في الحكم يقول الإمام عليه السلام في ذلك: (لم أجعلها دولةً بينَ الأغنياء) أي أنَّ الإمامَ عليه السلام لن يجعل الحكومة تُدارُ بينَ الأغنياء بل إنّهُ سحبَ هذه الأموالَ من أُناسٍ هم في قمة الثراء إلى الشريحة الاجتماعية المسحوقة مادياً.
ويقول الإمام عليه السلام أنهُ حاربَ الطبقيَّة وأقام الحكم على أساسٍ ديني، وفي مكانٍ آخر يتحدث الإمام عليه السلام عن حق الرعية والناس ويؤكدُ على حُرمة وكرامة الإنسان وأهمية ذلك، ويرى الدين أنَّ حقوقَ الفرد الواحد تَعْدِلُ حقوقَ الأمة برمتها من منظارٍ ديني. ونُقِلَ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قولهُ: إنهُ عندما أرادَ إرسالَ الإمام علي عليه السلام إلى اليمن لتولي القضاء، أكدَّ عليه بضرورة تنفيذ أحكام الدين، وتصدير ثقافة الثورة الدينية هناك، وقالَ الرسول الأكرم للإمام علي عليه السلام لا تُحارب شخصاً قبلَ أن تدعوهُ للإسلام.
وهذا يعني أنَّ منطقَ الإسلام قائمٌ على الحوار والاستدلال، بعدها يحقُّ لكَ رفعُ السيفِ بوجوههم. وينبغي أولاً قولُ الحقائق قبلَ إشهار السيف، وعليه فإنَّ الإمام لم يُحارب إلَّا بعدما يطرح الحجج والأدلة الدامغة حتى لجنود المعسكر الآخر، وقد فعلَ ذلكَ الإمام الحسين عليه السلام يومَ عاشوراء مع أنهُ كانَ قليلَ العدة والعدد، وكانَ قابَ قوسين من الشهادة. لقد كانَ الإمام عليه السلام يركب الجمل قبل ظهر عاشوراء ويُلقي الحجج على جند عمر بن سعد، ويقول لهم الحق وثمَّ يرفعُ بعدَ ذلكَ السيفَ في وجوههم، لأنهم لم يستجيبوا لدعوة الإمام عليه السلام.
رسالة الأنبياء
لم يكن الإمام عليه السلام من أولئك الناس الذين يقولون الحق ويُبينونَ مواضعهُ ويرحلون، بل قالَ الحقَّ ووقفَ في وجه الطغيان وقَتَلَ حتى قُتِلْ، هكذا كانت مسيرة الأنبياء التي غيرت التاريخ، وهكذا فعل الإمام علي عليه السلام وأولاده، حيث دخلوا التاريخَ من أوسع أبوابه وتركوا بصماتهم فيه، وقد أشارت الآيات القرآنية الكريمة إلى أنَّ الله سبحانهُ وتعالى أرسلَ الأنبياء بالكتاب والميزان والحديد، فالكتاب يعني المعرفة والميزان يعني العدل، والحديد يعني القوة. وهذا يعني أنَّ للأنبياء رسالةً تتكون من ثلاثة أجزاءٍ هي المعرفة والاستدلال والحوار مع الإنسان. والعدل أي حصولَ الإنسان على حقه. والقوة أي أنهم لا يكتفونَ بالقول والموعظة بل يُشهِرونَ السلاحَ ويستشهدونَ من أجل المبادئ. وفي عُرف الأنبياء الكلُّ مُهمٌ حتى لو كانَ إنساناً واحداً، حيثُ يقول الرسول صلى الله عليه وآله للإمام علي عليه السلام: (وأيمُ الله، لئن يهدي الله على يديكَ رجلاً خيرُ لك مما طلعت عليه الشمس). أي أنَّ هدايةَ إنسانٍ واحد تنفعُ الإنسانَ أكثرَ من أي شيءٍ في الدنيا، فالثقافة الدينية لا تنظر إلى الكميَّة بل إلى النوعية أولاً، ثمَّ أنَّ الآية القرآنية تقول: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا[2]) فلا فرق بين الشخص الواحد مع المليار (ومن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعاً) حيث أن الدين لا ينظر إلى العدد، ولو تمَّ التجاوز على حقوق وكرامة مجموعةٍ أو شخصٍ واحد فلا فرقَ عندَ الدين.
تعامل الإمام مع بيت مال المسلمين
قيلَ إنَّ عقيلاً جلسَ في بيت الإمام علي سلام الله عليه على المائدة ينتظر العشاء، وقد كانَ ضعيفَ البصر فظلَّ يتحسَّسُ السُّفرة فلم يجد فيها غيرَ الخبز والملح. فسأل الإمام لما التأخير؟ لماذا لا تأتونَ إليَّ بالعشاء؟ فقال الإمام عليه السلام أوَلَيسَ هذا عشاء؟ فقال عقيلٌ للإمام: أرجو ألَّا تمزح معي، إنني مقروضٌ وأتيتُكَ لِتُعطيَني من المال لأسددَ به دَيني. فأقسمَ الإمام أنهُ لا يملك من مال الدنيا شيئاً، ودعاهُ للصبر قليلاً حتى تأتي أموالٌ إلى بيت المال ويتمُّ تقسيمُها فيعطيَهُ الإمامُ نصيبهُ منها، ولو لم تكن عندي زوجةٌ وأولاد لأعطيتكَ سهمي أيضاً لأنني أكتفي بقرص شعيرٍ وحَسب، فثارَ عقيلٌ واستشاطَ غضباً وقال للإمام: لا تعظني فبيتُ المال بينَ يديك والكثير من الأموال هي بحوزتك وتَعِدُني بِحصَّتِكَ من بيت المال؟ نِصفُ سهمك؟ وكم يكون يا تُرى؟ فقال الإمام عليه السلام: سهمي وسهمك وسهم أرفع الناس والعبد واحد.. ولا حقٌّ آخر لنا في هذه الأموال فالحاكم ليسَ له حقٌ آخر على الرعية اللهم إلَّا مسؤوليتهُ فهي مُضاعفة وان حقوقه المدنية ليست أكثر من باقي الناس بل هي أقل.
وقالَ الإمام عليه السلام لشقيقه: إننا وباقي الناس مُتساوونَ في سهمنا من بيت المال، وليسَ لي حقٌّ أكثرَ من الآخرين حتى أعُطيه لك، وأنَّ للمسؤول واجبات أكثر من الناس والرعية لا حقوقاً تَفوقُ حقوقهم. هذه هي حاكمية الدين، وعندما كانَ عقيل يُصرُّ على الإمام أن يُعطيهُ من بيت المال، كان الإمام وعقيلٌ يقفان في موضعٍ من دار الإمارة يُشرفُ على السوق، وإذا بالإمام يقول لعقيلٍ: إن لم تكن قانعاً بسهمك من بيت المال إضافةً إلى نصف سهمي فبإمكانك أن تذهب إلى السوق وتكسر أحدَ صناديق البضاعة وتأخذ ما تُريد. فردَّ عقيلٌ بالقول: هل تُريدُني أن أسرق؟ ماذا تقول؟ إنها أموال الناس.
فردَّ عليه الإمام عليه السلام بالقول: وهل تُريدُ مني أن أسرقَ أموال بيت المال لأُعطيها لك؟ إنها وصيتك لي وقد ردَّدتُها عليك. إنَّ هذه البضاعة التي تراها لقد وضعت لأنَّ الناسَ اطمئنوا إلى الحكم فوضعوها حيثُ ترى، وعندما لم يقتنع عقيل اقترحَ الإمام أن يذهبا معاً لسرقة أموال أثرياء الحيرة بعد أن يضعوا اللثامَ على وجهيهما حتى لا يعرفهما أحد، ويتعرضان لقوافل وأموال وبيوت الأغنياء، فسألَ الإمام عقيلاً ما رأيُك في هذا؟ فأجابَ عقيل: لم آت إليكَ لِأسْرُقْ. فقال الإمام: سرقة نفرٍ واحد أفضلُ من سرقة الأمَّة والرعية، وأضافَ أنَّ اقتراحكَ يا عقيل أن أجزِلَ لكَ العطاء خلافاً للشرع يعني أنني أسرقُ قوتَ الأمة وأعطيَهُ لك، فأنني أقترحُ عليكَ أن نسرقَ واحداً أفضلُ من سرقة الرعية كلها.
هكذا كان الإمام حسَّاساً على بيت المال وحقوق الرَّعيَّة، فقد كانَ يهتمُّ لِأمور الرعية ويُدافع عن حقوقهم بما أوتيَ من قوة. أيُّ مذهبٍ ومدرسةٍ وعقيدةٍ تَرونَ أنَّ قائدها وحاكمها يفعلُ ما يفعله الإمام سلام الله عليه؟
ونُقِلَ عن عاصم ابن كُليبٍ الجرني عن والده يقول: كنتُ عندَ الإمام حتى جاءَ فيءٌ من المناطق الجبلية وإذا بالإمام عليه السلام ينهض فوضعَ مانعاً من الحبال قُبالة هذه الأموال وقال: لا يقترب منها أحدٌ حتى أُقسّمَ هذه الأموال. وذهبَ الإمام إلى ما وراءَ الحبال لوحده، وقال أينَ هم رؤوساء المناطق السبع في الكوفة؟ حيثُ كانت المدينة مُقسَّمة إلى سبعة أجزاءٍ، ولا ندري على أساس القبائل أم المناطق؟ على أي حال كانَ هناكَ سبع رجالٍ يتولونَ أمرَ شؤون البلدية وقامَ الإمام عليه السلام بتقسيم الأموال إلى سبعة أقسامٍ مُتساويةٍ بعدها التفتَ وإذا هُنالكَ قرصٌ من الخُبز فقسَّمهُ إلى سبعة أقسام وأعطى كُلَّ قسمٍ من هذه الأقسام إلى أحد المسؤولين السبعة، بعدَ أن أجرى القرعة حتى لا يُقال إنَّهُ أعطى السهمَ الأفضلَ لهذه المنطقة أو تلكَ مُحاباةً أو تفضيلاً لقريبٍ أو صديقٍ أو ما شاكَلَ ذلك.
وصايا الإمام علي عليه السلام لولاته
إنَّ هذه الطريقة في التعامل تضع الجميع تحتَ علامات استفهامٍ كبيرة، لكنني هنا أذكر هذه النماذجَ بُغيَةَ إفهام الآخرينَ الذينَ يعترضونَ على نموذج الحكم الديني ويسخرونَ من ذلك، وأقول لِهؤلاء: إنَّ النموذجَ العلوي هو نموذجٌ لن تراه البشرية بعد الإمام أبداً.
لأنَّ ما قامَ به الإمام عليه السلام تعدَّى حدود البشر، وعندما يُخاطب الإمام عمالهُ على المدن والولايات المختلفة كان يقول لهم: (أدقّوا أقلامكم ، وقاربوا بين سطوركم ، واحذفوا عني فضولكم[3]) واقتصدوا في كتابات الجُمَلْ حتى لا يتمَّ الإسرافُ في بيت المال، لأنَّ ذلكَ لا يجوز شرعاً، ففيه حقٌّ للرعية. هذا هو النموذج الديني.
وفي عهده إلى مالك الأشتر يقول الإمام عليه السلام: إنَّ الحكام هم بحاجةٍ إلى التقوى أكثرَ من الرعية أمَّا اليوم فنحنُ نقومُ بفعل العكس نوصي الناسَ بالتقوى و ننسى الحكام، في حين أنَّ منطقَ الإمام عليّ عليه السلام يدعو أن تتفوقَ تقوى الحكام على تقوى الرعية أضعافاً مُضاعفة، لأنَّ القوَّة والثروة بِأيديهم وينبغي أن يكونَ هؤلاء مؤهَّلينَ أكثرَ من الرعية حتى تُطيعهم سواء كانَ وكيلاً أو وزيراً أو محافظاً أو قاضياً ينبغي أن يكونَ متفوقاً على من يُطيعَهُ بالعلم والتقوى، وبخلافه يُطرح السؤال لماذا يحكم هوَ؟ ولماذا ينبغي أن أكونَ تابعاً للقوانين التي يسنُّها؟ وهنا يقول الإمام عليه السلام إنَّ التقوى هي شرطُ الحاكمية وعليه ينبغي أن يكونوا أكثرَ تقوى من الرعية، وينبغي أن يكونَ الحاكم والمسؤول مُطيعاً لِأوامر الله أكثرَ من الباقين، وينصر دينه ويُراعي حقوقَ الناس، وألَّا يُظلمَ ولو إنسانٌ واحدٌ في المجتمع، حيثُ يقول الإمام عليه السلام إنهُ سعى ألَّا يُظلمَ إنسان واحد في حكومته، حتى وإن كانَ غيرَ مسلم.
ثمَّ يتحدث عليه السلام بأنَّ القوة والسلطة لن تأتي بالمشروعية لِأحدٍ حيثُ يقول: (أملك هواك وشُحَّ بنفسك عمَّا لا يحلُّ لك)، وهذا يعني أنَّ السلطة في الإسلام محدودةٌ للحاكم، وعليه أن يُراعي الأصول ويُطبق العدالة، وبخلافه فهوَ مُتجاوز ولا مشروعيةَ له، وكذلك عليه أن يتعاملَ بحزمٍ مع المُدراء والمسؤولين الفاسدين، حيثُ يقول عليه السلام: إنَّ الكفاءة واتقانَ العمل من شروط المشروعية للمسؤولين في الحكومة الإسلامية بالطبع، ولا ينبغي التعامل مع المُدراء المُخلصينَ والمتخلفينَ على السواء، وأكدَّ عليه السلام على ضرورة أن يكون الارتباطُ بين الحاكم والرعية حُرّاً، وأن يكونَ الناسُ في مأمنٍ لكي يطرحوا همومهم ويُطالبوا بحقوقهم، حيث يقول الإمام عليّ عليه السلام عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (لن تُقدَّسَ أمَّةٌ لا يُؤخذُ للضعيفِ فيها حقهُ من القوي غيرَ مُتَعْتَعْ).
يقول الإمام عليه السلام إنَّ المجتمع الذي لا يستطيعُ فيه الفقير أن يُطالبَ بحقوقه ليسَ مُجتمعاً نظيفاً ولا مُقدساً ولا دينياً. أي أنَّ النظرية الإسلامية تُريدُ إعدادَ أشخاصٍ يُمكنهم المُطالبة بحقوقهم من قبل الأقوياء دونَ وَجَلٍ وتلكؤٍ أو خوف.
بعدها يُخاطبُ الإمام مالك الأشتر في عهده إليه لما ولاهُ مِصرَ: (واجْعَلْ لذوي الحاجات منكَ قسماً تُفرغُ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضعُ فيه لله الذي خلقك وتُقعدُ عنهم جُندكَ وأعوانكَ من أحراسكَ وشرطكْ، حتى يُكلمكَ مُتكلمهم غيرَ مُتَعْتِعْ[4]).
أي يدعوا الإمام عليه السلام مالكاً ليكونَ متواضعاً بحقّ، وأن يكونَ خاضعاً للأمة ويستقبل الناسَ بعيداً عن أعين الحُراس والشرطة كي يستطيعَ الناسُ قولَ ما يُريدونَ دونَ خوفٍ أو وَجَلْ. هذا هوَ دَيدَنُ الحكومة الإسلامية، ثمَّ يقول الإمام: (إياكَ والدماء وسفكها بغير حلِّها). أي يُحذرُ الإمام عليه السلام عمالَهُ من إراقة دمِ أحدٍ دونَ سبب، بُغيةَ الحفاظ على الحكم والمنصب، ومن يفعل ذلك فليسَ من الإسلام في شيء لأنَّ مكانة الحكومة الإسلامية هي في قلب الأمة، بالطبع ينبغي في بعض الأحيان التصرف بحزمٍ، والاستفادة من القوة ضدَّ من يُريدُ السوءَ بالحكم الإسلامي، وبخلافه فإنه ينبغي التعامل مع الأمة برأفةٍ و محبةٍ وتواضع هذا هوَ دَيدَنُ الإمام علي سلام الله عليه، ألَّا تكونَ العلاقة بين الرعية والحاكم علاقة الذئب والشاة واستباحة كُلِّ ما لديهم من حرماتٍ حيثُ يقولُ عليه السلام: (لا تُقويَّنَّ سُلطانكَ بسفكِ دمٍ حرام)، لا ينبغي للحاكم أن يحكم وفق الظلم والإجحاف والقتل بالطبع هذا لا يصدق مع من يُريدُ الشرَّ للناس، بل ينبغي الوقوف بوجه هؤلاء وقتالهم، فأمَّا قتلُهم أو الاستشهاد، ومن يفعل ذلكَ مع الرعية فهوَ ليسَ من منطق الأنبياء.
صفات الحاكم
وهناكَ روايةٌ عن المعصومينَ سلام الله عليهم حولَ طريقة التعامل من قبل الإسلام مع الرعية حيثُ تقولُ هذه الرواية ما معناه: ينبغي على المسؤولين أن يحذروا الكبرياء، وألَّا يتحدثوا مع الناس بطريقةٍ استعلائية وإنَّ على المسؤولين أن يسيروا في الطرقات بطريقةٍ لا يشعرُ فيها الناس بالضيق والحرج.
و يقول الإمام عليه السلام إنَّ الحاكم لا ينبغي أن يكونَ مُزاحماً للناس. وهناكَ تعبيرٌ للإمام علي عليه السلام حولَ التعابير التي يُطلقها الناس عن الإمام، حيث كان البعض يتملقونَ للتقرب من الإمام أو الحصول على هدايا، فيما كانَ الغالب يُطلقونَ هذه التعابير من حُبِّهم الكبير للإمام عليه السلام، حيث كان يردُّ عليهم بالقول لا تثنوا عليّ، فإنني أقومُ بما يُمليه عليَّ الواجب قُبالةَ الله والخلق ولإخراج نفسي إلى الله وإليكم من بغيَّة الخلق فيما يجب عليَّ من الحقوق، لم أفرغ بعدُ من أدائها.
ويُضيفُ الإمام عليه السلام إنهُ يُريدُ بهذه الخدمة التي يُؤدِّيها للرعية أن يخدمَ نفسهُ برضا الله، ويُبعدَ نفسه عن الأهواء والميول، حيثُ يقول عليه السلام: ( وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَال َلَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى[5]).
أي أنَّ الإمام عليه السلام يُخاطِبُ الناسَ بالقول: إنَّ ما أفعلهُ هوَ واجبٌ بِفعل قيادتي لكم، فلا أريدُ حمداً ولا ثناءَ، لأنَّ ما أقومُ به هو لوجه الله ومرضاته، إنني لن أتملَّقَ لِأصحاب القدرة والثروة، ولن أتملَّق لكم أبداً فنحنُ عبيدٌ من عباد الله.
مواجهة الحكومة التي تتستر بستار الدين
المجتمع الديني ليسَ مُجتمعاً مثالياً مُعَدَّاً سلفاً أو أنهُ يهبطُ من السماء تارةً واحدة ويستقرُّ في مكانه، ولا نقومُ نحنُ بأيَّةِ أعباءٍ أو سعيٍّ وجهاد، ونقومُ بتجشُّمْ عناء العيش فيه. المجتمعُ الديني هو المجتمع الذي يُصْنَعُ على أيدينا وينبغي أن يتوفر فيه الحدُ الأدنى من النصاب الديني، حتى نستطيعَ أن نُسميه بالنصاب الديني ولو قلَّ الإطار الديني العام عن حد النصاب فلا يمكننا إطلاق اسم المجتمع الديني عليه، حتى ولو كانَ عددُ المُتدينينَ كثيراً.
ثمَّ ينبغي أن نلتفتَ إلى أنَ حالةً من الانفلات وسوء الاستغلال، لا ينبغي أن تكونَ مانعةً لفعل أمر خيَّرٍ وهذا الأمرُ لا يُؤثر على أيٍّ من مناح الحياة عند البشر، فلو صدمَ إنسانٌ بسيارته شخصاً وماتَ الأخير فلن يقولَ عاقلٌ لنمتنعَ جميعاً عن ركوب السيارة، ولو كانَ حالنا هكذا فينبغي أن نودِّعَ كُلَ شيءٍ بهذه البساطة فلو استغلَّ أحدهم الحرية، فهل ينبغي أن نقولَ إنَّ الحرية أمرٌ أكَلَ عليه الدهر وشَرِبْ وينبغي ترك العمل بها؟
إنَّ التاريخَ البشري حافلٌ بتجاوزات الإنسان للعلوم المختلفة حيث ارتكبت المجازر بواسطة العلوم الحديثة فهل ينبغي تركُ العلوم جانباً، وكذلكَ بالنسبة إلى الفنون المُختلفة وهكذا بالنسبة إلى الدين أيضاً. بالطبع فقد تمَّ على مر التاريخ استغلال الدين، وسيظلُّ الأمرُ قائماً، لكنَّ هذا الأمر لا يقودُنا إلى ترك الأصل لوجود ممارسةٍ أو ممارستين مغلوطتين، بل إنَّ وجودَ ممارسةٍ مغلوطةٍ في تطبيق العدالة يدعونا لترك تطبيقها، بتصوري أنَّ هذه الاستنتاجات مغلوطة ولكن لنا أن نتساءل، هل هناكَ ديناميكية لمراقبة العمل الحكومي القائم على أساسٍ ديني كي نقف بوجه سقوطه من النصاب القانوني للحكومات الدينية كي لا يتم حكم المجتمع باسم الدين؟ في حين لا يتم العمل في المجتمع وفقاً للآراء الدينية أي أنَّ الجميع يأكلُ من سفرة الدين ولا يعمل بما يقوله ويدعو له الدين، ولو كانَ الإسلام يقول ويحكُمَ من يريد باسم الدين وعلى الرعية الإطاعة كيفما اتفق كما هو الحال في الكثير من المدارس السياسية والفلسفية حيثُ تقول أغلب النظريات الحقُّ لمن غلب، لما كان الإسلام والمذهب الشيعي يتخذُ موقفاً مُقابلاً لذلك.
وعلى الإنسان أن يُقارنَ بينَ ما يدعو له الإسلام وبينَ ما يفعلُ هؤلاء الحُكام، فإن كانت الأرجحية للحكام أطاع وبخلافه ينبغي استيضاحهم وانتقادهم والاحتجاجُ ضدَّهم، ولو لزمَ الأمرُ إعلان الجهاد ضدَّهم وأن يكونَ الواجبُ الانتفاضة ضدَّ حاكم جائر يحكمُ باسم الإسلام والإسلام منهُ براء، كما هو الحال مع بني أمية وبني العباس الذينَ وضعوا الدينَ وتعاليمهُ وأركانهُ المتمثلة بأهل بيت النبوة جانباً، هؤلاء الذين كانوا في حقيقة الأمر ناصحي المجتمع فقُتِلَ من قُتِلَ وشُرِّدَ من شُرِّدَ ودُسَّ السّمُّ للآخرينَ منهم، ولو كانَ المجتمع واقفاً على حقائق الأمور والدين فعليه الانتفاضةُ ضدَّ هؤلاء الحُكام و أمثالهم.
فالعقيدة الشيعية لا تقول بالمبدأ القائل: إنَّ كُلَّ ما يقوله أو يفعله المُتديّن هو صحيحٌ وخالٍ من الإشكالات، فلا يصحُّ أن نقولَ إنَّ كُلَّ ما يفعله القاضي والحكومة صحيح، لأننا نعيشُ في نظام الجمهورية الإسلامية وعلينا أن ندعمهُ بِكُلِّ ما أوتينا من قوةٍ، بل إنَّ لنا معياراً نمضي عليه، فإن حصلَ هناكَ تعارضٌ، استوضحنا ذلك حتى نقتنع أن لا استغلال يجري وبخلافه علينا أن نتحرك للنهي عن المُنكر.
[1] – نهج البلاغة: الخطبة: 216.
[2] – المائدة: 32.
[3] – فروع الكافي، الجزء الخامس، الصفحة: 151.
[4] – شرح نهج البلاغة (ابن ابي حديد)، المجلد: 17، الصفحة: 85.
[5] – نهج البلاغة: الخطبة: 216.
المصدر: رابطة الحوار الديني للوحدة