وكالة أنباء الحوزة - ألقى سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي خطابه السنوي في ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أمام الآلاف من المؤمنين الذين احتشدوا في ساحة ثورة العشرين في مدينة النجف الأشرف، قبيل انطلاق النعش الرمزي للسيدة الزهراء (عليها السلام) باتجاه حرم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ضمن فعاليات الزيارة الفاطمية الكبرى التي تقام سنوياً بعد انطلاقها قبل 21 عاماً في عام 1427 هـ (2006م) بلطف الله تعالى.
وكان خطاب سماحته تحت ظل الآية الكريمة من سورة هود: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾، حيث تحكي هذه الآية فصلاً من فصول المواجهة بين النبي الكريم شعيب (عليه السلام) وقومه المعاندين، الذين عجزوا عن مقارعة الحجة والبرهان بمثلها، فتوجهوا إلى التكذيب والاستهزاء وإنكار الحقائق والتجاهل والاستصغار والتوهين، ثم التهديد بالقتل، مما يكشف عن بعض ما كان يتعرض له الأنبياء والمصلحون الرساليون من الأذى والإهانة والمقاطعة والحصار. فاستخفّوا بدعوته (عليه السلام) أوّلاً واستهزؤوا بها، وزعموا أنّها لغوٌ وفارغةٌ من المحتوى ولا تستحقّ الاهتمامَ والإصغاء، فقالوا: "فدعوتك يا شعيب إنما هي إثارةٌ للشغب والمشاكل والاختلاف في المجتمع الذي نريده على مقاساتنا". وهدفُهم من ذلك خلقُ حاجزٍ بين المصلح والناس كي لا يستمعوا له فيقتنعوا بدعوته المباركة.
وأضاف: ثمّ انتقلوا إلى الاستصغار فقالوا: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}، أي لا تملك شيئًا من أسباب القوّة الماديّة، وليس لديك ما يدعونا إلى الإذعان لك، فالمال والسلطة وكثرة الأتباع والإعلام المؤثر والمكانة الاجتماعيّة بأيديهم. حتى رُوي أنّه (عليه السلام) قد فَقَدَ بَصَرَهُ من طول بكائه من محبة الله تعالى. لكنّ الذي منعهم من قتله بأقصى أنواع القتل وأشدّها توهيناً - وهو الرجم - هو رَهطُه، قال تعالى: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}. مجاملةً لقومه الذين كانوا على دينهم وخشية ردود أفعالهم. ووصفوهم بالرهط، وهم الجماعة القليلة التي لا يتجاوز عددهم العشرة، للمبالغة في استضعافه والتقليل من شأنه، ولولا مراعاة هذا الجانب لكان قتله (عليه السلام) يسيراً عليهم كشرب الماء.
وأكد سماحته أن هذه الأساليب الشيطانية تكشف عن هزيمة واندحار الطواغيت والمستكبرين المعاندين للدعوات الإصلاحية للقادة الربانيين على طول الزمان.
واستشهد سماحته بما نقله أرباب المقاتل أن جيش ابن مرجانة رد على الإمام الحسين (عليه السلام) لما خطب فيهم يوم عاشوراء بالحجج الدامغة فقالوا: "ما ندري ما تقول"، وقال قائدهم الشمر – وهو يعبد الله على حرف –: "إن كان يدري ما يقول". وهو نفس قول قوم شعيب، وهم قد حرموا فعلاً من فهم الكلام الناصح المثمر لأنه طبع على قلوبهم بالإغلاق، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾.
كما لفت سماحتُهُ إلى أن القادة الربانيين كانوا يسعون لإيجاد الناصر، لحماية رسالتهم السماوية المباركة، فدعوة الإسلام لما صدع بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة لم تكن قادرة على الصمود والبقاء لولا الحماية التي وفرها عمه أبو طالب سيد البطحاء، ثم التحق به عمه حمزة ذو البأس الشديد، ولم تجرؤ قريش على التفكير في قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا بعد وفاة عمه.
وقال سماحته: روى الشيخ الكليني في "الكافي" بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "لما توفي أبو طالب (سلام الله عليه) نزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد أخرج من مكة فليس لك بها ناصر". وثارت قريش بالنبي (صلى الله عليه وآله) فخرج. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: "ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب". فكان أبو طالب (رضوان الله عليه) الركن الشديد الذي يأوي إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبنو هاشم الرهط الذي يردع الأعداء.
ثم تطرق سماحته إلى ما حدث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حينما انقلبت الأمة على أعقابها ونبذت كتاب الله ووصية رسوله العظيم (صلى الله عليه وآله) خلف ظهرها، فدعاهم أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى نصرته والرجوع إلى الحق. وكانت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ركناً شديداً يأوي إليه، لما تمتلكه من قدسية وطهارة وصدق ومكانة رفيعة في قلوب المسلمين، شيدها أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكلماته المتواترة: "فاطمة بضعة مني، وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله"، وقال (صلى الله عليه وآله): "فاطمة مهجة قلبي وروحي التي بين جنبي". فنهضت السيدة الزهراء (عليها السلام) لنصرته حجة الله، وتحريض الأمة على التمسك بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحذرتهم من أن القعود عن نصرة الحق خذلان له ونصرة للباطل.
وفي ذات السياق، قال سماحتهُ: إن إرشاد السيدة الزهراء (عليها السلام) للأمة لنصرة الإسلام المحمدي النقي الأصيل، وأن تكون الأمة ركنه الشديد الذي يمنع العدو من مهاجمته، لا يقتصر على تلك الفترة الزمنية، وإنما هي (عليها السلام) تخاطب الأجيال جميعاً، لأن حرب أعداء الإسلام مفتوحة وقد اشتدت في زماننا الحالي بكل الأساليب الخشنة والناعمة، ومنها التشويه والتسقيط والافتراء والمكر والخداع والتضليل، واستخدام الوسائل الجاذبة التي تبهر العقول وتثير الشهوات وتلهب العواطف. وتريد (عليها السلام) منكم أن تكونوا رهط الإسلام الذي يخشاه الأعداء: ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾، وركنه الشديد الذي يؤوي إليه: ﴿أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾، بالإخلاص لله تبارك وتعالى، والوعي والبصيرة، والصبر والمصابرة، والمراقبة في كل ساحات المواجهة، والجد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وإقامة الشعائر الدينية النقية، والالتفاف حول القيادة الربانية العاملة المخلصة.
وقال سماحته: فكما يجب على القادة الربانيين النصح للأمة وبذل الجهد في هداية الناس وإصلاحهم وتحري مصالحهم، يجب على الأمة نصرتهم وأن يكونوا الدرع الواقية لحمايتهم، لأن الأعداء لا يخشون العلماء بأشخاصهم، وإنما يخشون من وجود قاعدة شعبية مخلصة وتحيط بالقائد وتحميه، نتيجة لما يمتلكه من تأثير ومحبة في قلوب الناس. ولولا هذه القاعدة الواسعة من الأتباع والمريدين، لما تأخروا لحظة في استئصالهم معنوياً أو مادياً – أي تسقيط الشخصية ثم قتل الشخص – لذا فإنهم يتحرشون بهم أولاً من بعيد ليروا ردود أفعال الأمة، فإن وجدوها ميتة ومعدومة التأثير أقدموا على فعلتهم الشنيعة في القضاء على القادة الربانيين، وهذا ما عشناه عن قرب في حياة السيدين الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما). وإن وجدوا الأمة ملتفة حول قادتها، مدافعة عنهم، واعية لمشروعهم، تراجعوا خوفاً على مصالحهم.
وفي نهاية خطابه السنوي، ذكر سماحة الشيخ محمد اليعقوبي عدة مظاهر ومصاديق لنصرة العلماء وحمايتهم، وهي:
أولاً: أن يوصلوا صوت القائد الرباني ويبينوا مواقفه ويدافعون عن آرائه ويردون الشبهات عنه، كما قال الإمام الرضا (عليه السلام) في شرح معنى إحياء أمرهم: "يتعلم علومنا ويعلموها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا". وأن تهميش القائد الرباني يبدأ من تجاهل فكرهم ومشاريعهم.
ثانياً: تصدي النخبة العلمية الخبيرة لبيان مؤهلات القائد واجتماع شروط القيادة فيه.
ثالثاً: حماية مشروعهم الرسالي والالتزام به، فما قيمة أتباع غير ملتزمين بالمنهج؟ لأن انحراف الناس يؤدي إلى عزل القائد بسهولة ومحاصرته.
رابعاً: الهمة والنشاط بتنفيذ المشروع الرسالي وإقامته على أرض الواقع، وتفعيل مؤسساته المتنوعة التي تغطي ساحات العمل، وأن لا يدخروا جهداً في ذلك، فإن قوة تأثير القائد تقاس بمدى فاعلية أتباعه في المجتمع، وأن العدو إذا رأى تقاعس الأتباع تجرأ على قائدهم.
وختم سماحته حديثه بالدعاء: اللهم اجعلنا من المتأسين بالسيدة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) في كل خير واجتناب كل سوء، حتى نحظى بشفاعتها ومرافقة أبيها وبعلها وبنيها (صلوات الله عليهم أجمعين).
المصدر: موقع المكتب الإعلامي لسماحة آية الله اليعقوبي





تعليقك