وكالة أنباء الحوزة - أكد سماحة آية الله السبحاني على المكانة العلمية والأخلاقية للمرحوم آية الله النائيني، مشدداً على دور الفقيد في استمرار الجهاد العلمي والثقافي للحوزات العلمية دوراً بالغ الأهمية.
جاء ذلك خلال كلمة ألقاها قبل ظهر اليوم في المؤتمر التكريمي للميرزا النائيني، الذي انعقد في قاعة مؤتمرات مدرسة الإمام الكاظم (عليه السلام) بمدينة قم.
وفيما يلي نص مقالته الذي كتبه باللغة العربية بهذه المناسبة والذي نشره مكتبه:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال اللّه تعالى:
(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).( 1)
الميرزا النائيني (1277 ـ 1355 هـ)؛ قدوة العلم والمعرفة
نتقدم بالشكر الجزيل إلى الفضلاء والعلماء المشرفين على إقامة هذا المؤتمر التكريمي للمحقق النائيني (قدس سره)، ومن حسن الحظ أن إقامة هذا المؤتمر اتفقت مع مرور ألف سنة على تأسيس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، حيث إنّ شيخ الطائفة أبا جعفر الطوسي (قدس سره) قد هاجر إلى هذه المدينة المقدّسة عام 447 هـ، وذلك بعد أن كان(قدس سره) في عاصمة العراق بغداد ذا مكانة علمية رفيعة، ممّن يُشار إليهم بالبنان.
وقد ثقُل على جماعة أن يكون لعالم شيعي ذائع الصِّيت في مختلف العلوم هذا المقام الشامخ، فثارت القلاقل واشتدّت الفتن بين الطائفتين واتسع نطاقها بأمر (طغرل بيك) أول ملوك السلاجقة، فإنّه ورد بغداد سنة 447 هـ وشنّ على الشيعة حملة شعواء، وأمر بإحراق مكتبة الشيعة الّتي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدين البويهي، حتّى وصلت نيران الفتنة إلى شيخ الطائفة وأصحابه، فأحرق السلاجقة كتبه وكرسيّه الّذي كان يجلس عليه للكلام.
فلم يجد الشيخ بدّاً إلا اللجوء إلى مدينة العلم النجف الأشرف، مع ما تبقّى من كتبه وعدد من أصحابه، وعندئذ يُطرح السؤال الآتي:
هل كانت النجف أرضاً قاحلة غير مسكونة أو كانت مدينة كسائر المدن يسكن فيها جماعة من أصحاب الحرف والعلم؟
الظاهر هو الثاني بدلائل كثيرة نقتبس القليل منها:
1. أن الشاعر ابن الحجّاج البغدادي (المتوفّى 391 هـ) ـ وكان من المعمّرين ـ الّذي زار المرقد الشريف لأميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول في قصيدة أنشدها هناك:
يا صاحب القبّة البيضاء في النجفِ *** من زارك قبرك واستشفى لديك شُفي
زوروا أبا الحسن الهادي لعلكمُ *** تحظَون بالأجر والإقبال والزُّلفِ
زوروا لمن تُسمع النجوى لديه فمن *** يزره بالقبر ملهوفاً لديه كُفي(2 )
2. قال السيد عبد الكريم بن طاووس في «فرحة الغريّ»: كانت زيارة عضد الدولة للمشهدين الشريفين الطاهرين الغروي والحائري، في شهر جمادى الأُولى في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة... وخرج ]من الحائر[ وتوجّه إلى الكوفة لخمس بقين من جُمادى المؤرخ، ودخلها وتوجّه إلى المشهد الغروي يوم الإثنين... وطرح في الصندوق دراهم،... وفرّق على المجاورين وغيرهم (خمسة آلاف درهم)، وعلى القرّاء والفقهاء ثلاثة آلاف درهم.( 3)
إنّ توزيع هذا المبلغ عام 371 هـ خير دليل على وجود الفقهاء والعلماء في النجف الأشرف قبل وفود شيخ الطائفة إليها بأزيد من نصف قرن.
كلّ ما ذكرنا يدلّ على أنّ حلقات التحديث والتدريس كانت قائمة في النجف، من غير فرق بين الأدب والفقه وغيرهما.
لكن لم تكن هناك جامعة ذات نظام خاص في العلوم العقلية والنقلية، وإنّما حدث ذلك بعد هجرة الشيخ الطوسي، فوضع الحجر الأساس لجامعة علمية عالمية يشع نورها عبر الأزمنة والدهور وتخرِّج آلافاً من العلماء البارزين في أنواع العلوم، وغاية ما تدلّ عليه هذه الحوادث أنّ النجف الأشرف كانت مدينة تنتشر فيها حلقات علمية لدراسة الفقه والحديث وغيرهما، ولكن كانت محدودة غير متّسعة، بشهادة أن الشيخ الطوسي ألّف تفسيره التبيان في النجف الأشرف، ومَن تدبّر فيه يجد أنّه ينقل عن كثير من مؤلّفي الشيعة والسنّة في تفسير الآيات الكريمة، كالطبري والزجّاج والفرّاء وأبي علي الجُبّائي وعلي بن عيسى الرُّمّاني إلى غير هؤلاء، وهذا يدلّ على وجود مكتبة غنيّة في الغريّ وأنّ الشيخ الطوسي قد استفاد منها، واحتمال أنّ الشيخ حملها بنفسه من بغداد إلى النجف أمر بعيد.
وحصيلة الكلام أن الشيخ الطوسي هو الّذي أسس جامعه عالمية بقيت وضّاءة عبر القرون إلى يومنا هذا، وقد تخرج فيها الآلاف من حملة العلوم ومختلف الفنون والاختصاصات، ومنهم محور كلامنا أعني المحقق الميرزا الغروي النائيني. ولأجل الإشارة إلى مختلف مراحل حياته، نقسم مقالنا إلى حقول متعددة.
***
1. حياته ونشأته في موطنه
ولد المترجم في مدينة نائين عام 1277 هـ، فتعلّم المبادئ وبعض أوليات العلوم فيها، وانتقل عام 1293 هـ إلى أصفهان، فحضر في الفقه على الشيخ محمد باقر الاصفهاني، وفي الأصول على الميرزا أبي المعالي الكلباسي، وفي الحكمة والكلام على الشيخ جهانگير خان القشقائي، إلى غير ذلك من العلماء الأعلام هناك، حتّى نال من ذلك قسطاً وافراً وحظاً عظيماً.
***
2. دراسته في العراق
في عام 1303 هـ هاجر إلى العراق مع السيد محمد باقر الدورجئي، وحضر هناك بحث السيد إسماعيل الصدر، والسيد محمد الفشاركي الأصفهاني، ثم حضر الأبحاث العالية على السيد المجدّد الشيرازي، حتّى صارفي الأواخر كاتباً ومحرراً له، وبقي ملازماً لأبحاثه إلى أن توفي السيد سنة 1312 هـ، فبقي في سامراء إلى عام 1314 هـ، ثم هاجر إلى كربلاء بصحبة السيد الصدر، ثم غادرها إلى النجف، وكان الشيخ محمد كاظم الخراساني قد استقلّ بالتدريس، فلما توفي السيد المجدّد زادت مكانته وعظم شأنه ونشأت بين المترجم وبينه رابطة أكيده وصار من أعوانه و أنصاره في المهمات الدينية والسياسية، كما صار من أعضاء مجلس الفتيا الّذي كان يعقده الشيخ الخراساني في داره مع بعض خواص أصحابه لمناقشة المسائل الفقهية المستحدثة وتحرير الأجوبة عنها.
وبعد أن توفي المحقق الخراساني صار المترجم له ممّن يُشار إليه بالبنان في التدريس والتعليم، وكان مجلس تدريسه غاصاً بالفضلاء.( 4)
***
3. كلمات العلماء في حقّه
إن شيخنا النائيني غنيّ عن نقل كلمات العلماء في حقه وبيان مقاماته السامية:
وإذا استطال الشيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً
ومع ذلك فلنذكر شيئاً قليلاً من كلمات الأعاظم في حقّه.
قال مؤلف «مرآة الشرق»: هو من الأعلام المعاصرين وأجلّة الفقهاء المجتهدين، فقيه أصولي نبيه، دقيق النظر، عالي الفهم، وسيع الفكر، حسن القريحة، مستقيم السليقة، سريع الانتقال، جيد الإنشاء، حسن الخط والإملاء، حاضر الجواب. وله حوزة كبيرة في النجف الأشرف في الفقه والأصول بعد ارتحال أُستاذنا العلامة الكبير محمد كاظم الخراساني، يحضرها خواص الفضلاء، وقد انتهت إليه رئاسة المذهب وزعامة الأمّة بعد رحلة العلاّمة الأستاذ الإمام شيخ الشريعة وهو المرجع في الفتوى اليوم للشيعة في الأقطار.( 5)
وقال مؤلف «ماضي النجف وحاضرها»: «وفي النجف اليوم من أركان العلم وأساتذة الفن ومن تدور عليهم رحى التدريس والفتيا أفذاذ مشاهير (وفي طليعتهم) العلامة الشهير الميرزا محمد حسين النائيني (رحمه الله) ذلك الرجل الّذي قضى عمره الشريف في خدمة الدين وإحياء سنّة سيد النبيين(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد تخرج على أشهر مشاهير العلماء: السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي (المتوفّى سنة 1312 هـ)، وحوزته في الدرس الآن تُعد بالعشرات وفيها الكثير من العلماء ومن حاز الإجازة».( 6)
وقال الشيخ الطهراني: وكان مشاركاً جامعاً تضلّع وبرع في الآداب اللغوية، فارسية وعربية وله رسوخ في الكلام والفلسفة، وتوحّد في الفقه، أما هو في الاصول فأمر عظيم لأنه أحاط بكلياته، ودققه تدقيقاً مدهشاً; وأتقنه إتقاناً غريباً، وقد رنّ الفضاء بأقواله ونظرياته العميقة، كما انطبعت أفكار أكثر المعاصرين له بطابع خاص من آرائه، حتّى عدّ مجدداً في هذا العلم كما عدّت نظرياته مماثلة لنظريات شيخنا الخراساني صاحب «الكفاية»، وكان لبحثه ميزة خاصة لدقّة مسلكه وعمق تحقيقاته فلا يحضره إلا ذوو الكفاءة من أهل النظر، ولا مجال فيه للناشئة والمتوسطين لقصورهم عن الاستفادة منه، ولذلك كان تلامذته المختصون به هم الّذين تعلّق بهم الآمال وهكذا كان، فقد برز فيهم أفذاذ أصبحوا اليوم قادة الحركة العلمية والفكرية، والمدرسين المشاهير مثل السيد أبي القاسم الخوئي، والشيخ حسين الحليّ، والسيد حسن البجنوردي، والميرزا باقر الزنجاني، فإن هؤلاء اليوم مدراء الجامعة النجفية، من مواردهم يستقي الطلاب وهناك من تلاميذه أفذاذاً التحقوا بالرفيق الاعلى كالشيخ محمد علي الخراساني صاحب «فوائد الاصول» والشيخ موسى الخوانساري، وآخرون في أرجاء البسيطة...( 7)وستأتي الإشارة إلى بعض من لم يذكره.
آثاره وتآليفه
كان الشيخ (رحمه اللّه) كثير المطالعة والتأمّل في المسائل، ولكنّه كان قليل الكتابة ومع ذلك فقد صدر عن قلمه ما يلي:
1. رسالة مفصّلة في اللباس المشكوك وهي أفضل تآليفه.
2. رسالة في التزاحم والترتب.
3. رسالة في التعبدية والتوصلية.
4. رسالة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
5. رسالة في الشرط المتأخر.
6. رسالة في أحكام الخيارات.
7. رسالة في البيع والبيع الفضوليّ
أقول: رغم قلّة ما كتب المحقق الراحل بيده لكنّ تلامذته الّذين حضروا دروسه قاموا بتحرير ما طرحه من أفكار ونظريات، وإليك ذكر اسماء بعضهم:
1. فوائد الأُصول بقلم العلاّمة الحجّة الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني في جزءين.
2. أجود التقريرات في علم الأصول بقلم زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف السيد أبي القاسم الخوئي (قدس سره).
3. منية الطالب في حاشية المكاسب بقلم العالم الرباني الشيخ موسى النجفي الخراساني في جزءين.
4. المكاسب والبيع بقلم العلاّمة الرباني الشيخ محمد تقيّ الآملي في جزءين.
يقول المقرّر: إن الاستاذ (قدس سره) عند شروعه (ببيان) أحكام المكاسب قال لجهابذة طلابه شكر اللّه مساعيهم الجميلة: «تعلّموا منّي المكاسب فإنّي رجل مقبوض» تشويقاً لهم في التلقّيّ والحفظ، ولعمري لقد أجاد فيما أفاد، وكأنما ما أودعه الشيخ الأكبر (قدس سره)( 8) كان هو المخصوص في كشف حقائق أسراره، كما هو الظاهر من آثاره الّتي منها ما أثبتناه في هذه الصحائف.( 9)
***
تهجده وتضرعه
في ذلك المجال يقول عنه الشيخ الطهراني: كان المترجم له متضرعاً نقيّاً صالحاً غير متهالك على حُطام الدنيا ولا متفان في الحصول على الرئاسة، وكان إذا وقف للصلاة ارتعدت فرائصه وابتلّت لحيته من دموع عينيه.(10 )
***
مواقفه السياسية
كان المترجم له فقيهاً عارفاً بالظروف وافقاً عليها، وفقاً لما قاله الإمام الصادق (عليه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». ولمّا ظهرت فكرة الحكومة الدستورية في الشرق الأوسط، اختلف الناس ـ حتّى العلماء منهم ـ في تأييدها، لكن الميرزا النائيني كان ممّن تأمّل في الموضوعودرس جوانبه، فأيّد الحكومة الدستورية في مقابل الحكومة الفردية، وألّف في ذلك كتابه المعروف بـ «تنبيه الأُمّة» فناقش الموضوع من جوانبه المختلفة وأيّد النظرية بعدد من الآيات والروايات، وقد نهل في موقفه هذا من عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، ألّفه وكان الخلاف في النجف وسائر البلاد الإسلامية في الموضوع على قدم وساق.
وكان الميرزا يؤيد هذه الفكرة في كتاباته ورسائله، غير أنّه (قدس سره) تراجع أخيراً عن موقفه بشكل خاص، لكنّه لم يتراجع عن الأُمور السياسية وتدخل الفقيه في أُمور الأُمّة وإنّما تراجع عن تأييده للممارسين لشؤون الحكومة في طهران الّذين كانوا يُريدون أن تكون الحكومة غير ذات صبغة دينية وغير ملتزمة بالشريعة الإسلامية، ولما ظهرت نواياهم الفاسدة بإعدام آية اللّه الشيخ فضل اللّه النوري واغتيال العلاّمة السيد عبداللّه البهبهاني والسيد محمد الطباطبائي، وبعد ردح من الزمان اغتيل إمام جمعة في تبريز علت الضجّة من قبل المتدينين على الممارسين باسم الحكومة الدستورية فصار سبباً لابتعاد المترجم له عن هؤلاء لا عن الموضوع الّذي حققه وأبرمه.
ويشهد على ذلك أن كلّ ما كان ظهر أمر حيويًّ ومهم في الساحة يصبّ في مصلحة الأمة الإسلامية لم يتردد الميرزا في إبداء رأيه فيه، ونظير ذلك أنّه أفتى بتحريم المشاركة في انتخابات مجلس النواب في العراق، حيث أدرك أن النتائج ستكون لمصلحة الاحتلال البريطاني، وقد صدرت من جانبه (رحمه الله)الفتوى التالية.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
نعم، حكمنا بحرمة الانتخاب وحرمة الدخول فيه على كافّة الأُمّة العراقية، وإنّ من دخل في هذا الأمر أو ساعد عليه أدنى مساعدة، فقد حادّ اللّه ورسوله والأئمة الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) أعاذ اللّه الجميع عن ذلك.( 11)
محمد حسين الغروي النائيني
19/ ربيع الأول / 1341 هـ
إنّ انتشار تلك الفتوى صار سبباً لأن تقوم الحكومة العراقية الملكيّة آنذاك بإبعاد المترجم له مع جمع من العلماء إلى إيران، وبعد ما وصل خبر إبعادهم من العراق إلى إيران استقبلت الجماهير المؤمنة هؤلاء العلماء منذ دخولهم الأراضي الايرانية إلى أن وصلوا قم المقدّسة، وكان في رأس المبعدين: الميرزا النائيني، والسيد أبوالحسن الأصفهاني، والشيخ محمد مهدي الخالصي فصارت قم المقدّسة موطناً ثانياً لهم، وقد احتفى الشيخ الحائري بالميرزا حفاوة كبيرة، وفوّض إليه أمر التدريس وإمامة صلاة الجماعة، وقد درّس المترجم له قاعدة لا ضرر خلال مدّة إقامته في قم المقدّسة، والحديث في هذا الموضوع ذو شجون.
***
إبداعاته العلمية
إن للميرزا النائيني إبداعات في الفقه والاصول، نذكر قسماً منها.
1. قسّم القضايا الحملية إلى قضايا حقيقية وقضايا خارجيّة، والمراد من الثانية الحكم على الموضوع الموجود في الخارج بحيث لا ينطبق إلا على موضع الخطاب ولا يتجاوزه، كقول القائل: قُتل من في العسكر، ونهب من في الدار.
وأما القضايا الحقيقية فهي الحكم على الموضوع حسب ما له من المصاديق عبر الزمان، كقول القائل: يجب الحج على كلّ مستطيع، حيث إنه حكم على عنوان المستطيع بما له من المصاديق في الحال والمستقبل.
وقد اعتمد على هذه القاعدة في حلّ كثير من المسائل، الأصولية والفقهية.
وأذكر هنا نكتة، وهي أن لكل فقيه مفتاحاً خاصاً (أو منهجاً محدداً) في الفقه والأُصول يحلّ به المشاكل، وقد اعتمد شيخنا على هذه الفكرة في حل المسائل، كما أن آية اللّه الشيخ ضياء الدين العراقي كان له مفتاح آخر وهو الاعتماد على القضية الحينية في غير مورد من الموارد ويقول بأنها تفارق القضية المشروطة والقضية المطلقة.
2. إرجاع القضايا الشرطية إلى القضايا الحملية، قائلاً بأن كلّ مشروط موضوع وكلّ موضوع شرط، فقوله سبحانه: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)( 12) بمعنى أنّ الإنسان العاقل البالغ المستطيع يجب عليه الحج.
غير أن سيدنا الاستاذ الامام الخميني (رحمه الله) يفصّل بين كون القيد راجعاً إلى الوجوب أو إلى الواجب، فوافق في الرجوع في القسم الثاني دون الأوّل.
3. نتيجة الإطلاق ونتيجة التقييد أو متمم الجعل، وبهذه القاعدة صحح أخذ قصد الأمر في موضوع الواجب التعبّدي، وقال في ذلك الصدد: إن العلم بالحكم لما كان من الانقسامات اللاحقة للحكم، فلا يمكن فيه الإطلاق والتقييد اللحاظي لاستلزامه الدور ـ كما أوضحناه في مبحث التعبدي والتوصلي ـ وقلنا: إن أخذ العلم قيداً جزءاً أو شرطاً أو مانعاً مما لا يمكن في مرتبة الجعل والتشريع ـ كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم به كقصد التعبّد والتقرّب في العبادات ـ وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضاً، لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، ولكن الإهمال الثبوتي أيضاً لا يعقل، بل لابد إمّا من نتيجة الإطلاق أو من نتيجة التقييد، فإنّ الملاك الّذي اقتضى تشريع الحكم، إمّا أن يكون محفوظاً في كلتا حالتي الجهل والعلم فلابد من نتيجة الإطلاق، وإمّا أن يكون محفوظاً في حالة العلم فقط فلابد من نتيجة التقييد، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفلاً لبيان ذلك فلابد من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق والتقييد وهو المصطلح عليه بمتمم الجعل، فاستكشاف كلّ من نتيجة الإطلاق والتقييد يكون من دليل آخر.( 13)
4. إن المجعول في الأمارات هو الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية عن الواقع، أي تتميم الكاشفية بعد ما كان في الطرق والأمارات جهة كشف في حد نفسها غاية أن كشفها ناقص وليس ككاشفية العلم إلى أن قال... والشارح في مقام الشارعية تمّم كشفه وجعله محرزاً للواقع ووسطاً لاثباته.( 14)
إلى غير ذلك من الإبداعات والنظريات القيّمة الخاصّة.
نتيجة الدراسة
من قرأ الخطوط البارزة لحياة الميرزا النائيني منذ وروده العراق إلى إقامته في النجف الأشرف الّتي أُتيح له فيها تدريس الفقه والأُصول وتربية جمّ غفير من أعاظم العلماء، يقف على النتائج التالية:
الأولى: أن الاستاذ الجليل كان ذا حافظة قويّة، يُعدّ قريباً من جماعة الحفّاظ، ويشهد على ذلك أنه لا يدرس مسألة إلاّ ويذكر لها شواهد من هنا وهناك، وكأنه درس الموضوع في يومه هذا.
الثانية: أنه أخذ أُسس آرائه وأفكاره عن الاستاذين: السيد المجدد الشيرازي، والسيد الفشاركي، حيث إنه نهل من آرائهما وأفكارهما في كثير من الفروع والأُصول ودليلنا على ذلك ما يلي:
1. المشهور في الصلاة في اللباس المشكوك هو عدم الجواز، غير أنّه لما افتى المجدد الشيرازي بالجواز، خرجت المسألة عن الشذوذ وأفتى المترجم له بالجواز حتّى أنّه ألّف رسالة قيمة في هذا الموضوع.
2. إن مسألة الترتب من المسائل الشائكة وقد أحكم مبانيها السيد الفشاركي ونقلها شيخنا الحائري في درره، ونرى قريباً من ذلك في دروس الاستاذ الراحل حيث ذكر مقدمات استنباط الترتب حتّى ذكر لها شواهد من الفقه، والعلمان من تلاميذ السيّد الفشاركي( 15) وليس معنى ذلك انه كان مقلداً لهم، بل كان متأثراً من افكارهم وآرائهم.
***
الثالثة: الاستاذ الميرزا النائيني كان ملمّاً بالفلسفة، حيث درسها على يد الحكيم الجهانگيري القشقائي، ولذلك نرى أنه يتأثر بالفلسفة في بعض المسائل الاصولية، حيث بنى جواز اجتماع الأمر والنهي على كون تركيب المادّة والصورة تركيباً انضمامياً لا اتحادياً، ورتّب عليه بأن تركيب الصلاة مع الغصب تركيب انضمامي لا اتحادي، فيكون متعلق الأمر غير متعلق النهي.
***
الرابعة: إن المترجم له يؤيد في غير واحد من الموضوعات نظرية الشيخ الأنصاري، ولذلك تراه ينقض ما أُورد على الشيخ من الاشكالات.
الخامسة: أن دراسته للمسائل الاصولية كانت ممزوجة مع الفروع المترتبة عليها، وبذلك خرجت دروسه في الأصول عن كونها قواعد جافّة من غير أن يستفيد منها الدارس في الفروع والتطبيقات.
السادسة: أن الاستاذ الراحل كان بالنسبة إلى تلامذته وحضّار دروسه كالأب الرؤوف بالنسبة إلى أولاده، وبذلك نرى انتشار قسم عظيم من دروسه بأقلام تلامذته.
السابعة: إن دراسة حياة الميرزا وما قام به من الأعمال والأفكار وما أسس وأبدع يدلّ على أنّه لم يكن شخصاً واحداً، قال سبحانه في حق نبيّه إبراهيم (عليه السلام): (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)(16 ) فهو قد قام بأعمال لا يقوم بها الا الجمع من الأفذاذ، وبذلك لم تكن رحلته رحلة شخص عادي، يقول الشاعر:
وما كان قيسٌ هُلكُه هُلكَ واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدّما
از شمار دو چشم يك تن كم *** و از شمار خرد هزاران پيش
ختامه مسك
إن مدير الحوزة العلمية قام في السنة الماضية باحياء ما أُثر من المؤسس الحائري (رحمه الله) من العلوم والآثار، فصار بذلك محيياً للآثار والمآثر. وبذلك نطلب منه أن يقوم بمثل هذا العمل في مورد سيد الطائفة آية اللّه العظمى محمد حسين البروجردي (رحمه الله) باذن اللّه سبحانه ...
تم تحريره في قم المقدسة
بقلم جعفر السبحاني
صبيحة يوم الإثنين
السابع والعشرين من ربيع الثاني
عام 1447 هـ. ق
الهوامش:
[1] . المجادلة: 11.
[2] . الغدير: 4/126.
[3] . فرحة الغريّ: 155.
[4] . نقباء البشر: 14/594.
[5] . مرآة الشرق لمحمد أمين الإمامي الخوئي: 1/660 ـ 661.
[6] . ماضي النجف وحاضرها للشيخ جعفر محبوبة: 1/382.
[7] . نقباء البشر: 14/594.
[8] . يقصد الشيخ الأنصاري (نوّراللّه مرقده الشريف)
[9] . المكاسب والبيع: 1/ مقدّمة المقرّر.
[10] . نقباء البشر: 14/594.
[11] . كتاب شيعة: ص 403، ح 23 و 24.
[12] . آل عمران: 97.
[13] . فوائد الأُصول: 3/11 ـ 12.
[14] . فوائد الاصول: 3/107.
[15] . فوائد الاصول، الجزء 3، تعليقات الشيخ ضياء الدين العراقي.
[16] . الأعراف: 120.
للاطلاع على كلمة آية الله جعفر السبحاني التي ألقاها باللغة الفارسية يرجى الضغط هنا.
المصدر: وكالة أنباء الحوزة
تعليقك