وكالة أنباء الحوزة - تكمن أهميّة حادثة الغدير في فكر الإمام الخامنئي من خلال دورها في رسم مسار مستقبل الإسلام والمسلمين. بمعنى آخر، بدلاً من مجرّد التطرق إلى ماهية هذا الحدث وأبعاده أو شخصية الإمام علي (ع)، في خطوة مفتاحية ومؤثرة، يتم الأخذ بعظمة حادثة الغدير في «تحديد خط الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي».[1]
ومن هذا المنطلق، فإن للغدير ثلاث خصائص أساسية. أولاً، إنه حدث يمكن تعريفه في نهج هداية البشرية. ثانياً، هو حدث متعلق بمصير جميع المسلمين وليس خاصاً بجماعة أو مذهب معين، وثالثاً، هو حدث يهدف إلى استكمال بنيان تعاليم دين الإسلام.
الخطوة الأولى في هذا المقال هي شرح هذه الخصائص الثلاثة المهمّة لحادثة الغدير، والخطوة الثانية هي طرح موضوع الجانب الخاص، بمعنى آخر، ما هو امتياز حادثة الغدير في «تحديد خط الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي»، بالنسبة إلى وقائع تاريخ صدر الإسلام والتعاليم المطروحة قبل الغدير؟ في الإجابة على هذا السؤال يمكننا أن نبيّن كيف أن الغدير هو المُظهر والموضح للجذور والكيان، والرمز الذهبي للحكومة المنشودة في الإسلام أيضاً.
كمقدمة، يُذكر أن قاطبة المسلمين يؤمنون بخالقية ومالكية الله تعالى لما سواه، وقد أكدوا دائماً وما زالوا على حاكميته المطلقة وتصرّفه التام. كما أنهم يرون أن الحياة الاجتماعية المنشودة المصالح الدنيوية للبشرية لا يمكن أن تتحقق إلا بتشكيل الحكومة. لذلك فإن هذه القضية هي محل اشتراك للرأي عند المسلمين بأنه لا خيار إلا بإذن الله ورضاه لتشكيل الحكومة وتعيين الحاكم. هذه المبادئ المشتركة دفعت المسلمين في صدر الإسلام، بحياتهم ومالهم وممتلكاتهم، إلى خدمة الرسول الأكرم (ص) باعتباره إنسان مختار ومنصوب في مقام هداية البشر وليؤدي دوراً في تحقيق أهداف الحكامية الإلهية. يتبيّن أن القراءة المتأنية والدقيقة لمجموعة الآيات والروايات، مع مراعاة هذه القواسم المشتركة، تنفي التفسيرات الثلاثة وتوضح الحقائق الثلاث لحادثة الغدير.
مكانة الغدير في منظومة التعاليم الإسلامية
الانطباع الأول الذي يُفسّر حادثة الغدير على أنها أمر فريد وخارج آلية ومسار هداية الإنسانية؛ بالعكس، فإن الرجوع إلى الآية الثالثة[2] من سورة المائدة توضح الدور الرئيسي والمحوري لواقعة الغدير في مسار الهداية. في هذه الآية، هناك فقرة لا تقبل التأويل، وهي: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، والتي تؤكد أن حادثة الغدير، مهما كانت، ستؤدي في النهاية إلى هزيمة فكرية وعملية للكفار. إنه قول جيّد أن «اليأس» دائماً ما يستخدم مقابل كلمات كالرجاء والطمع[3]، وبالرجوع إلى آيات القرآن الكريم يتضح أن الهدف الأساسي للكفار في مواجهة الإسلام والمسلمين هو دائماً «إطفاء نور الدين»[4] أو «عودة المسلمين أو انحرافهم عن طريقهم»[5].
من هذه الزاوية، فإن القول بأن حادثة الغدير قد تسببت في اليأس والاحباط لمشروع وبرنامج الكفار؛ يمكن أن يكون إشارة إلى أنها استمرار لقرارات وأفعال الرسول (ص)، بل ويمكن اعتبارها النقطة المحورية لمنظومة التعاليم الإسلامية. لأنه لم يتم التنبؤ بهكذا نبوءة بشأن أيّ أمر من الأوامر الإلهية التي من شأنها أن تسبب اليأس والإحباط لأعداء الإسلام.
الغدير شأنٌ يتعلّق بمصير كل المسلمين
الانطباع الخطأ الآخر هو أن حادثة الغدير مرتبطة فقط بنظرة ومعتقد ومذهب معين. ولكن في هذا الصدد يكفي الرجوع إلى الآية 67 من سورة المائدة[6]: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. يتضح من اختيار كلمة "رسالة" أن أمر الله في واقعة الغدير يتماشى مع المسؤولية العامة والعالمية للنبي (ص) في هداية البشرية، والأمر مهم جداً لدرجة أنه يتم إبلاغه لأول مرة ووفقاً للقرآن الكريم، فإن تحقق الرسالة أو عدم تحققها، وإن نجاح الرسول (ص) في تكليفه الإلهي وعدم نجاحه مرتبطان. من البديهي، في مثل هذا الجو، أن الحديث عن مجموعة محددة من المخاطبين لن يكون مقبولاً.
الغدير حادثة من أجل ضمان الحياة الدائمة للإسلام
وفي النهاية، هذا الانطباع ليس صحيحاً أيضاً أنّ حادثة الغدير لم تكن قضية أساسية وإنما قضية تاريخية بحتة وأنها كانت إجابة لقضايا العصر الصغيرة والثانوية. ولتحديد دقة هذا التفسير، يمكننا الالتفات إلى جزء آخر من الآية الثالثة من سورة المائدة ومفهوم "الإكمال" في عبارة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. يؤكد بعض المفكرين في شرح هذا القسم أن الإتمام يعني استكمال عمل ناقص، لكن الإكمال هو أن الموضوع جسده صحيح وكامل، ولكن لأنه ليس له روح، أو لكي يترتب عليه واقعه والآثار المنتظرة منه، فلا تترتب إلا بواسطة أمر واحد.[7]
من هذه الزاوية، وفقاً للكلام الإلهي، فإن إكمال الدين يعني نفخ الروح والواقع على حزمة الأوامر الإلهية. لذلك، فإن حادثة الغدير لها مكانة أساسية من منظور أنها تبيّن شأن ومكانة الولاية والقيادة فيما يتعلق بأبعاد وعناصر أخرى من نظام الحكومة الإلهية.
نقطة إمتياز الغدير في تحديد ضابطة الحكومة في الإسلام
على الرغم من مكانة الغدير المفصلية والأساسية والتي تسمو على المذهبية، لكن المؤرخين يؤكدون أنه بعد هجرة النبي محمد (ص) إلى المدينة المنورة، قام بالعديد من الجهود والإجراءات بشكل مباشر وغير مباشر من أجل إقامة إدارة موحدة وحكومة إسلامية مقتدرة.[8] ويمكن القول بنحو قاطع أنه قبل توجّه الرسول (ص) لآخر سفر حج، اتفقت النخب السياسية والاجتماعية والعلمية في المجتمع على سلطته السياسية على شبه الجزيرة العربية. بالإضافة إلى ذلك، خلال سنوات النبوة وبعد تعيين الرسول (ص) للعديد من المبلغين والقادة والممثلين، كانت المعايير التي حددها لاختيار المسؤولين والقادة واضحة إلى حد كبير. بل يمكن القول إن أبعاد مسؤولية الإمام وقائد المجتمع الإسلامي وواجباته تجاه المسلمين قد تم تحديدها. لكن ما العنصر والامتياز الموجودان في حادثة الغدير اللذان يوجدان لها شأناً ومكانة مختلفة؟
تشير الدراسات إلى أن حادثة الغدير قد عُرّفت بنحو صريح على أنها النقطة المحدَّدَة والمحدِّدَة في مسألة ولاية وقيادة المجتمع - والتي بحسب ما حدث، فإن قواعدها وأُطرها قد أخذت حيزاً لها من قِبل النبي (ص) في خطاب زمانهم -. الله تعالى من جهة والإمام عليّ (ع) من جهة أخرى. إن إيضاح ضرورة الشرعية الإلهية للإمامة في المجتمع الإسلامي يؤكد أن المجتمع الإسلامي رغم تنامي الفكر الديني والسياسي لا يمكنه اتخاذ قرار حاسم ومطمئن بشأن تعيين مرشد للأمة الإسلامية في كل أبعاد وجوانب الحياة الإسلامية. من ناحية أخرى، يظهر أن الله تعالى والرسول الأكرم (ص) لم يكونا غير مهتمين بقضية الإدارة في النظام الإسلامي والمجتمع الإسلامي، وهي أكثر القضايا المؤثرة في هداية المجتمع البشري.
حادثة الغدير وتحديد رمز ومسار الحكومة في الإسلام
إن تقديم الإمام علي (ع) يؤكد أيضاً أن إمام المسلمين في منصب الإمامة - كتيّار ضروري لاستمرار هداية البشر - سيكون له خصائص وأن عليّ (ع) هو رمز حقيقي لشخصية "الإمام".
وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن وصف هذه الصفات بأبعاد مختلفة ومتزامنة، وعلى سبيل المثال يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء: الصفات الروحية والإلهية مثل الإيمان العميق، وإخلاص المعرفة بالله و... وكذلك الصفات الإنسانية البارزة مثل الشجاعة والرحمة والإيثار و... وأخيراً الخصائص الحكومية لدى الإمام الناتجة عن حادثة الغدير، من قبيل العدل والإنصاف والمساواة بين جميع الناس والابتعاد عن زخارف الدنيا وزينتها لشخصه هو، والتدبير، والسرعة في المبادرة، والقدرة على تبيين الحقائق، وهداية المجتمع نحو التقوى و...[9]
ومما لا شك فيه أن هذه الصفات يمكن رؤيتها في كثير من أصحاب النبي (ص)، وهذا ما قد ورد في المصادر.[10] ولكن في واقعة الغدير، أظهر الرسول الأكرم(ص) أنه ينبغي تقديم الرمز التام للحكومة المنشودة. وأيضاً من أجل تحقيق وحدة المسلمين التي تضمن تماسُكَ الحركة لأتباع دين الإسلام، يجب أن يكون هذا التقديم مصحوباً بتأييد الله تعالى.
وبالطبع، هناك سمات فريدة من نوعها في هذا الاختيار، وحتى صِرف وجود شخصية النبي الأكرم (ص) الكاملة لا يمكنه ضمان استمرارية الإسلام الأصيل؛ وهي أن عليّاً (ع) الذي هو على رأس أسرة تتمتع بمعرفة الله والعصمة الإلهية. وهذا يمكن أن يُكسب معنىً لحديث الثقلين[11] وضرورة الجمع بين القرآن وعترة النبي (ص) والتمسك بهما إلى يوم القيامة.
[1] من كلمة لسماحة الإمام الخامئني بمناسبة عيد الغدير بتاريخ 20/09/2016.
[2] فيما يخصّ شأن نزول الآية، بغدادی، تاریخ بغداد، ج8، ص290؛ ابن عساکر، تاریخ مدینه دمشق، ج2، ح 575- 578.
[3] زمخشری، الکشاف عن حقائق غوامض التنزیل، ج1، ص604.
[4] {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة، 32).
[5] و{َلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة، 217)، {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (آل عمران، 69).
[6] فيما يخصّ شأن نزول الآية. تفسیر الحبری، ص262؛ ابن عساکر، تاریخ مدینه دمشق، ج2، ص82.
[7] مطهري، مجموعة الآثار، ج 23، ص 99 (النسخة الفارسيّة).
[8] من المصادر التي أشارت لذلك في السير السياسيّة للرسول الأكرم (ص): علیخانی، سیاست نبوی؛ محمدالغضبان، المنهج السیاسی للسیره النبویه؛ قلعه جی، قراءه سیاسیه للسیره النبویه؛ عجاج الکرمی، الاداره فی عصر الرسول(ص).
[9] لمشاهدة تقسيم هذه الصفات، مراجعة كلمة سماحة الإمام الخامئني بمناسبة عيد الغدير بتاريخ 20/09/2016.
[10] مراجعة مجموعات التحقيق حول السيرة النبوية، مثلاً: صحابه رسول الله (ص)، الصاعدی، الاحادیث الوارده فی فضائل الصحابه.
[11]النسائي، السنن الکبری، 1411ق، ج5، ص45؛ الطبراني، المعجم الکبیر، 1404 ق، ج5، ص186؛ الحاکم النیشابوري، المستدرك، ج 3، ص 110؛ الکلیني، الکافي، ج1، ص294؛ الصدوق، عیون اخبار الرضا، ج2، ص 62؛ المفید، الإرشاد، ج 1، ص 180.