وكالة أنباء الحوزة - نقدم لكم مقالا بقلم الباحث الإسلامي الشيخ غريب رضا وهو يتحدث عن قصته مع اللغة العربية وسبب عشقه لهذه اللغة، وذلك بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الموافق 18 ديسمبر.
بسم الله الرحمن الرحيم
أول لقائي بلغة أهل الجنة
تعرّفت على جمالها وسحر أنغامها ووقع موسيقى حروفها وكلماتها على القلب حينما كنت طفلاً صغيراً ألعب في البيت وأنظر إلى أمّي وهي على سجّادة صلاتها و بعد الإنتهاء من الصلاة أجلس بجانبها أستمع إليها بشغف و هي ترتّل لي أحرف النور بصوت ملائكي مزج فيه حنان الأمومة و طمأنينة الإيمان.
حفظت قصار السور في صغر سنّي ونقشت آيات الذكر الحكيم على صفحة الروح بفضل الله وبفضل جهود أمّي التي لم تنفصل يوماً عن القرآن الكريم فكانت آيات الذكر الحكيم أول لقائي باللغة العربية وما ألطف الملتقى وأسماه وأبهاه .
نعم عشقت العربية ودخل في قلبي حبّها لفصاحتها وبلاغتها لأنّها كلام الله الذي يكلّم به خلقه... و هكذا حال أغلب المؤمنين من غير العرب فإنّهم وإن لم يتلقّوا دروس اللغة العربية وآدابها بشكل آكاديمي لكن لاستئناسهم المستمر بالقرآن الكريم قرآءة و حفظاً و تدبّراً اكتسب وا خلفية و استعداد اً لفهم و استيعاب العربية نظراً إلى مخزونهم اللغوي المتلقّى من وحي القرآن.
على ضفاف المحيط
دخلت في المرحلة الإعدادية ومثل كل الطلبة في المدارس الإيرانية أخذت مادة اللغة العربية ستّ سنوات فحسب الدستور الإيراني يجب على كلّ طالب وطالبة أن يدرس من المرحلة السادسة إلى نهاية الثانوية منهجاً في كلّ سنة في اللغة العربية لأنّها لغة القرآن و لغة المعارف الدينية 1 .
كنت الطالب الناجح والدؤوب في مادّة اللغة العربية و أتلقاها بكل حب ّ و شغف و أحصل دائماً على درجة العشرين الكاملة في الدرس.
وصف الأستاذ لنا في يوم من الأيام اللغة العربية بوصف جميل لن أنساه أبداً قائلاً أنّ العربية بحر بل محيط إذا انغمست فيه لن تقدر أن تخرج منه ولو قضيت عمرك كله في السباحة بين لجاته وأمواجه فرأيت نفسي على ضفاف هذا المحيط راغباً اصطياد جواهرها الجمالية ودررها البلاغية.
ابن الأهواز يتعلم العربية
مدينة الأهواز مركز محافظة خوزستان ومن الناحية القومية تنقسم المدن في هذه المحافظة إلى ثلاثة أقسام :
المدن العربية كاملة : مثل شادكان وسوسنجرد و...
المدن غيرالعربية: مثل ايزه ودزفول وشوشتر
المدن الخليطة قومياً : مثل الأهواز التي يعيش فيها القوميات المختلفة منها العرب
فتعلمت بحكم التعايش مع العرب في الأهواز كلمات مبعثرة عربية و عدداً من المفردات في اللهجة الدارجة الأهوازية التي هي قريبة للهجة أهل البصرة فمنذ قرون يتعايش العرب والفرس في هذه الأرض الطيبة ويتزاوجون ويعملون معاً ويشاركون الحياة بكل لذاتها ومراراتها. و أنا شخصياً لدي أصدقاء كثيرون من العرب لاأرى بيني وبينهم أي فواصل واختلاف أبداً إضافة إلى أنّ لدينا قرابة ومصاهرة مع العرب في الأهواز فعلى سبيل المثال زوج خالتي هو عربي أصيل وكان من المجاهدين أيام الدفاع المقدّس كما أنّ أخاه استشهد في الدفاع عن الوطن أمام العدوان الصدامي. فبالرغم من الحملة المسعورة للإنفصاليين حول قضايا الأهواز والتضليل الإعلامي الذي يمارسه الإعلام الرسمي المعادي للجمهورية الإسلامي فالأهواز كانت ولاتزال من أبرز معالم العيش المشترك بين القوميات المتنوعة .
عشت هذه اللغة المباركة
عشت هذه اللغة المباركة ولم أنفصل عنها ليلاً ولانهاراً بل كنت أقرأ وأكتب وأترجم وأناقش وأساهم في شبكات التواصل الإجتماعي بالعربية وأختار أغلب أصدقائي من العرب وفي حين السياقة في سيارتي أسمع إلى إذاعة طهران العربية (رديوهادي) التي تعلّمت منها الكثير الكثير... ووصلت إلى درجة أنّني أفكّر في دخيلة نفسي وأحدّثها بالعربية !
إيراني مستعرب
كنت أناقش أحيانا العرب في مختلف القضايا وأتحدّث معهم باللغة الفصحى وأحيانا أستخدم بعض المفردات من اللهجات الدارجة أثناء كلامي مما يثير استغرابهم سائلين عن جنسيتي فكان يزيد استغرابهم حينما يعرفون أنني من إيران ولست عربياً.
كنت أردّ عليهم هذا من فضل ربّي. أنّني تعلّمت هذه اللغة المباركة حبّاً للقرآن الكريم و حبّاّ للتواصل مع إخواني العرب ولاغرابة في الذي يتعلّم لغة دينه بل العجب من الذين تمضي عليهم سنوات العمر المديد و يعيشون على بعد من هذا البحر الذخار المفعم بالجمال و الروحانية ولايقتربون إليه؟
نعم أنّني ( إيراني مستعرب ) وقفت نفسي لخدمة أمة نبينا محمّد ولجمع كلمتها ولمّ شملها من خلال اللغة العربية. و أطلب من الله دائماً أن يجعلني همزة الوصل بين الأمة الإسلامية و جسراً للتعارف بين ثقافتي العربية والفارسية .
الحوزة العلمية واللغة العربية
هاجرت من مدينتي الحبيبة و مسقط رأسي الأهواز بعد الإنتهاء من دراستي المتوسطة إلى مدينة قم المقدسة لأدخل في الحوزة العلمية و أكمل دراستي العليا في العلوم الدينية فتلقيت الكتب الأساسية في اللغة العربية وآدابها في علوم الصرف والنحو والبلاغة ضمن مناهج الحوزة العلمية و هي المحطة الأولى في العلوم الدينية و لايمكن للطالب أن يستغني عنها و يشتغل بالعلوم الأخرى مثل الفقه وأصول الفقه أوالحديث أو تفسير القرآن و... إلا بعد تمكنّه من هذه العلوم الأدبية ليتسنّى له مراجعة النصوص الدينية من القرآن الكريم و السنة الشريفة و فهمها و استيعاب معانيها ودقائقها بشكل مباشر و كذلك شاركت من بداية دراستي في الحوزة العلمية دورة المحادثة العربية فقد كانت حوزتنا العلمية المسمّاة بالمعصومية رائدة في تعليم ال مكالمة العربية بأحدث الطرق والتقنيات التعليمية مستفيدة من الطلبة العراقيين أو اللبنانين في القسم الداخلي معيناً و مساعداً لنا في المسيرة التعليمية ناهيك عن الرحلات الصيفية التي يدخل فيها الطالب بعد نجاحه في دروس المحادثة في السنة الدراسة ليتفرغ فيها للمحادثة العربية في الإجازة الصيفية بين المشاركة في الدروس و مختبر اللغة وتلقي الأخبار و المساهمة في إقامة الإحتفالات الثقافية باللغة العربية و....
الحج والعالم الإسلامي
في السنة السادسة في الحوزة العلمية وبعد انتهائي من دروة المحادثة العربية وتمكني بشكل نسبي في ا لتحدّث بالعربية وفقت لأداء الحج التمتع وفتح الله لي ببركة هذه الفريضة المباركة، صفحة جديدة في حياتي فدخلت في مجال الحوار والتواصل الثقافي من أوسع أبوابه حيث رأيت أروع نماذج الالتقاء والوحدة من خلال أداء مناسك الحج . فالحج بطبعته العرفانية ومناسكه العظمية يوحّد ويجمع هذه الفيسفساء البشري العظيم التي أتت من كلّ فجّ عميق والتفّت وطافت حول محور التوحيد و بيت الله الحرام لتشهد منافع لها . وعرفت واستوعبت أنّ العالم الديني إذا أراد أن يؤدّي واجبه الرسالي فيجب عليه أن يمثّل في حركته الدعوية دور الكعبة التي تنقذ الأمة من الفرقة والتشرذم ويوحّد مختلف الشعوب بتنوعاتها حول محور عبودية الله:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ
ناشط ثقافي باللغة العربية
انخرطت في العمل الثقافي والفكري وأسست رابطة الحوار الديني للوحدة وقمت بأسفار ثقافية دعوية إلى العديد من الدول العربية مشاركاً في المؤتمرات واللقاءات مع أصحاب الفكر والثقافة والأدباء والشعراء كما ألفّت مقالات وكتباً باللغة العربية ولم أكن بعيداً عن الإعلام المرئي في القنوات الفضائية كما كنت ناشطاً في شبكات التواصل الإجتماعي خلال هذه السنوات فهذه المسيرة المتواضعة من حتني ضخماً من التجارب المتراكمة ووفّرت لي شكبة من العلاقات والأصدقاء الطيبين في العالم العربي أعتز وأفتخر بصحبتهم وصداقتهم و مازلت على التبادل المعرفي والثقافي مع العديد منهم من خلال الفضاء الإفتراضي.
تعلّم اللغة العربية في إيران
ولمسك الختام لابأس أن ألقي الضوء قليلاً على مسار تعلّم اللغة العربية في إيران فترى الإهتمام التعليمي في مستويين ومجالين: المجال الرسمي الحكومي والمجال الخاص الشعبي :
الدراسات الرسمية في المدارس(تحدثنا عنه سابقا) و الجامعات في اختصاص الأدب العربية حالة رسمية وآكاديمية معروفة فهناك كليات خاصة للغة العربية وآدابها منتشرة في المدن الإيرانية يرتاد إليها الطلبة في مستوى الدراسات العليا .
أمّا على الجانب الخاص هناك مؤسسات كثيرة تهتم بتعليم اللغة و يتخر ج منها من يرغب إلى تعلم اللغة العربية وعادتاً يهوي إليها من له حاجة في استخدام اللغة العربية ولايرى التعليم الرسمي كافياً لتبلبية مايحتاج اليه.
أقبل العديد من الشعب الإيراني لتعلّم اللغة العربية بسبب كثرة ارتيادهم للدول العربية للزيارة الدينية (مثل زيارة الحج والعمرة وزيارة العتبات المقدسة وم راقد أهل البيت(ع) في العراق) و بسبب تنمية الأعمال التجارية بين إيران و دول الجوار التي يتحدث أهلها باللغة العربية والبعض يرتئي تعلّم اللغة بشكل غيررسمي من خلال الحضور و العمل في المجتمعات العربية أو الإستفادة من المناهج المتوفرة في الأنترنت كما أنّ هناك رغبة كبيرة للمشاركة في دروس المحادثة العربية عن بعد من خلال التقينات الحديثة في الإنترنت و البعض ال آخر يتعلم العربية بالدواعي الإقتصادية ومن خلال مهنته فعلى سبيل المثال أغلب أصحاب المحلات في الأسواق في المدن الكبيرة في إيران مثل مشهد و قم و أصفهان يتحدثون العربية بشكل مقبول من خلال استقبال زبائنهم الزوار من الدول العربية الذين يعشقون البضائع الإيرانية!
و الكلمة الأخيرة
أخاطب أحبائي في العالم العربي والإسلامي في اليوم العالمي للغة العربية وأذكّرهم بما قال الله في محكم كتابه الكريم وأسال الله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعاً لتحقيق التعارف الثقافي بين الشعوب:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
1 المادة السادسة عشرة من الدستور الإيراني:
بما أن لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية هي العربية، وأن الأدب الفارسي ممتزج معها بشكل كامل، لذا يجب تدريس هذه اللغة بعد المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية فـي جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية.
* بقلم الشيخ غريبرضا