وكالة أنباء الحوزة - «ونُريدُ أن نمنَّ على الذينَ استُضعِفوا في الأرضِ ونجعلَهُم أئمّةً ونجعلَهُمُ الوارثينَ* ونمكِّنَ لهم في الأرضِ ونُرِيَ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما مِنهم ما كانوا يحذرونَ* وأوحينا إلى أمِّ موسى أن أرضِعيهِ فإذا خفتِ عليهِ فألقيهِ في اليمِّ ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رادُّوه إليك وجاعلوه من المرسلينَ*» (القصص 5-7)
في هذه الآيات الكريمة يتحدث الله سبحانه وتعالى عن مرحلة هامة وأساسية في التاريخ البشري، حدثت فيه نقلة نوعية في الاجتماع الإنساني حيث نصر الله فيه جماعة المستضعفين –والذين كانوا متمثلين في بني اسرائيل المؤمنين بالله والمنتظرين للمخلّص من قبل الله جل وعلا- على جمع المستكبرين ورئيسهم فرعون ووزيره الأول هامان.
يشير الله سبحانه إلى إرادته في أن يمنّ على الذين استضعفوا في الأرض «ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين». لكن كيف تتحقق تلك الإرادة وكيف تمّ التمهيد لها؟ يبين الله سبحانه أن للمرأة المؤمنة التقية دور عظيم في مسار التخطيط الإلهي، والتمهيد لتحقق الوعد الإلهي. فالذي سيحمل المشروع الرباني ويقوم في وجه المستكبر الطاغية هو نبي مختار مجتبى يتمتع بالعزم الشديد ويقدر بصفاته العالية على تحمل صعوبات الرسالة والمهمة، هذا النبي الرسول يجب أن يخضع لتربية عالية جدا؛ تربية إلهية صافية؛ «ولتُصنع على عيني» (طه 39)، وقبل ذلك أن يُحفظ من القتل الهمجي الممنهج ضد المواليد الذكور في بني اسرائيل وإفشال مكر فرعون وأعوانه.
«وأوحينا إلى أمِّ موسى»؛ هذه المرأة الطاهرة الصلبة التي بلغت مستوى من الإيمان عالياً بحيث تتلقى الوحي وتكون واسطة الله لرعاية وليه. وكان الاختبار صعباً جداً؛ أن تلقي ابنها في اليم لحمايته من بطش فرعون... لكن قوة يقينها جعلتها محلاً لعناية الله، فتسلم وجهها وابنها له سبحانه دون وجل بل باطمئنان وسكينة مبهرة، وترضع وليدها وتلقيه في اليم تنفيذاً لأمر الله وطاعة له... وتتقصى خبره عبر أخته المؤمنة الصغيرة كلثم... ويتحقق وعد الله الأول لها «إنّا رادُّوه إليكِ»، ثمّ تبدأ الصناعة الربانية لموسى كليم الله... تبدأ هذه الصناعة على يديها ويدي امرأة أخرى هي «مثلاً للذين آمنوا» امرأة فرعون آسيا الكريمة.
هذا الدور الأمومي لأمهات الرسل والأنبياء، أشار الله له سبحانه في مختلف آيات كتابه العزيز، وأكد على تأثيره في حركة التاريخ البشري وارتقائه نحو اختيار سلوك الطريق الإلهي وتحقيق خلافة الله في الأرض. فإلى جانب أم موسى وآسيا، كانت مريم الصديقة سلام الله عليها المصطفاة المطهرة، وكانت هاجر وسارة وغيرهن وصولاً إلى سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء وأمها خديجة صلوات الله وسلامه عليهما.
وتجدر الإشارة إلى أن إرادة الله في المنّ على الذين استضعفوا هي إرادة مستمرة عبر التاريخ بقرار إلهي وقانون غيبي، حتى تكون وراثة الصالحين الشاملة والمهيمنة للأرض «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذّكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» (الأنبياء آية 105). -مع فارق أنّ في المعركة المنتظرة يكون بنو اسرائيل هم الجهة المستكبرة، والمستضعفون هم من سيزهر منهم "عباداً لنا أولي بأس شديد"-.
وهنا يبرز أيضاً دور المرأة المؤمنة في تهيئة الظروف وصناعة عباد الله؛ وخاصة في هذه المرحلة الحساسة التي تشهد بقوة صراعاً بين الحق والباطل؛ وقد أسس الإمام الخميني (قدس سرّه) عند انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وبعده السيد القائد الخامنئي (حفظه الله وأدام ظله الشريف)، للرؤية الإسلامية الحضارية بما يتعلق بشخصية المرأة ودورها الحيوي الخطير في تحقيق خلافة الله جل وعلا. وقد شكلت هذه الرؤية نقلة حضارية نوعية تمثلت في إعادة إحياء الإسلام ونهجه العالي في النظر لشخصية المرأة ودورها الحيوي في بناء الإنسان الكامل ومواجهة القوى المستكبرة وبالأخص الحركة الصهيونية الهدامة.
يقول السيد القائد الخامنئي (حفظه الله): "بوسع المرأة أن تمارس دوراً مصيرياً في التحولات التاريخية الداخلية والدولية في ظل الإيمان والوعي وبعيداً عن المستنقع الفاسد الذي أوجده لها العالم الغربي. إنّ عظمة المرأة وفخرها لن يتجلّى في الأمور التي أوجدتها لها الأيادي الصهيونية المدنّسة في عالم اليوم المنحط، وإنّما بوسع المرأة أن تخطو في ظل الطهارة والعفة والشعور بالمسؤولية، جنباً إلى جنب الرجل وأن تتفوق عليه أحيانا".(1)
وقد تميز هذا النهج الأصيل في قراءة دقيقة للواقع الاجتماعي والظروف الزمنية والمكانية والحضارية، من جهة، ومن جهة أخرى توضيح الرؤية العامة للمنظومة العقدية والقيمية والتشريعية في المجال الاجتماعي والأسري وبما يتعلق بشؤون المرأة، وذلك بالاستفادة من الأصول الإسلامية (القرآن والسنة) والتراث العلمائي في تفسير هذه الأصول، وكذلك من التجربة الإنسانية المتمثلة بالعلوم الحديثة الإنسانية وغيرها، وإرشاد الجهود العلمية والبحثية والاجتهادية للعلماء والمفكرين في هذا المجال. إضافة للدعم الواضح والمستمر للفلسطينيين وبالأخص المرأة الفلسطينية المظلومة والمجاهدة جنبا إلى جنب مع الرجل وأسرتها والتي قدمت تضحيات جسام في مجال نصرة قضيتها؛ قضية فلسطين وتحريرها من دنس المجرمين الصهاينة.
ونحن لا يمكن لنا أن نغفل هذا النهج حين الحديث عن المرأة المسلمة ودورها اليوم في معركة الحق والباطل ومواجهة الاستكبار والاحتلال الاسرائيلي. فلقد بان تأثير هذا النهج بوضوح في جهاد المقاومة الإسلامية في لبنان وبداية الانتفاضة الشعبية الأولى في 1987 في فلسطين بعد انتصار المقاومة في لبنان ضد العدو الاسرائيلي ودحره عن الجزء الأكبر من الأراضي اللبنانية، وفشله في تحقيق مآربه. وذلك بسبب جهود ثلة من المقاومين المؤمنين بنهج أهل البيت (عليهم السلام) وولاية الفقيه المباركة، وتضحيات نساء مجاهدات، قدمن أبناءهن شهداء ومعتقلين وفتحن بيوتهن للمجاهدين، يسهرن على خدمتهن وراحتهن وحمايتهن ولو أدى ذلك إلى فقدانهن الأمن واعتقالهن أو استشهادهن.
وقد سجل تاريخ المقاومة نماذج مشرقة وزاهرة لنماذج من النساء القدوة اللواتي قل نظيرهن، قدمن كل التضحيات الممكنة وشجعن أبناءهن على سلوك طريق الجهاد وقدمن الولد والاثنان والثلاثة؛ أذكر منهن على سبيل المثال؛
الحاجة إنصاف عاشور؛أم الاستشهادي أبي زينب (أو عامر كلاكش) والتي كانت تعلم بعملية ابنها وشجعته وأخفت خبر استشهاده عن أبيه وبعض الأسرة، وذلك لوجودهن تحت الاحتلال الإسرائيلي وقدمت ثلاثة من أبنائها معتقلين وكذلك كنتها، وقد استشهدت ابنتها على يد العملاء بعد خروجها من المعتقل. (2)
الحاجة فاطمة ناصر عليق؛ أم الشهيدين القادة يوسف وابراهيم عليق، التي فتحت بيتها ودعمها المادي والمعنوي للمقاومين ينطلقون منه لشن العمليات ضد العدو. وقد ربطت بينها وبين المجاهدين علاقة عاطفية قوية، وذلك لدورها الأمومي وروحها اللطيفة وحنانها، فكانوا ينادونها بأمي. وقد اعتبرتها المقاومة أما للمجاهدين. (3)
الحاجة خديجة حرز (أم الشهيد حسن ياسين)؛ وهي أسيرة محررة عملت على مساعدة المجاهدين في تجهيزهم وحمايتهم، وكذلك قادت مظاهرة من النساء من أسر المعتقلين إلى معتقل أنصار، وقد أدت هذه التظاهرة إلى إحداث انتفاضة للمعتقلين داخل معتقلهم. وقد تمت ملاحقتها من قبل الاحتلال وأسرها ونقلها إلى معتقلات فلسطين. (4) وغيرهن المئات من الأمهات والزوجات والمجاهدات اللواتي سطرن بطولات لا تقل عن تلك التي سطرها المجاهدون في الوعور وعلى التلال ضد العدو الصهيوني الهمجي.
هذا الجهاد المبارك كلّله اندحار العدو الإسرائيلي عن جنوب لبنان سنة 2000م، والذي تلته انتفاضة فلسطين الثانية، ثم حرب تموز في لبنان 2006 وحرب غزة الأولى والثانية و... وقد تكلل كل ذلك بانتصار المقاومة الإسلامية في لبنان وكذلك في فلسطين المحتلة.
فكانت كل الأسباب تتضافر معاً لتحقيق الانتصار؛ أرض مقدسة، دين الله الخاتم الحق و"ليظهره على الدين كلّه"،(5) رجالٌ مؤمنون مجاهدون غيارى على دين الله وعلى أعراض ودماء المسلمين، ونساءٌ مؤمنات مجاهدات مباركات طاهراتٌ مضحيات... هذه الأسباب كلّها تضافرت وما زالت تتضافر لتلقي المدد والنصر الدائم من الله "إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم"،(6) وتتحقق الانتصارات واحدة تلو الأخرى ضد التكفيريين والإرهابيين عملاء اسرائيل والشيطان الأكبر الولايات المتحدة الأميريكية... وإن شاء الله للتمهيد للظهور المقدس لحجة الله في أرضه محمد بن الحسن عليه صلوات الله وسلامه وعجل فرجه. إن المرأة التي تبذل جهدها في تربية أبناء أحرار مجاهدين، وفي دعم زوجها على طاعة الله ونصرته لهي عامل من عمّال الله كما ورد في الحديث الشريف، وأرض الله لا تخلو من عمّاله.
وأختم بقول السيد القائد الخامنئي أدام الله ظله الشريف: "المرأة الإسلامية عبارة عن ذلك الكائن الذي يتحلّى بالإيمان ويمتاز بالعفاف ويتصدّى لأهم قسم في تربية الإنسان، وهو يؤثر في المجتمع، ويمتاز بالرشد العلمي والمعنوي، وهو مدير لمؤسسة بالغة الأهمية هي مؤسسة الأسرة، ومبعث استقرار وسكينة الرجل، هذا كلّه إلى جانب خصوصيات الأنوثة: مثل اللطافة ورقة القلب والاستعداد لتلقي الأنوار الإلهية، هذا هو نموذج المرأة المسلمة". (7)
الهوامش:
1- من كلمة للسيد الإمام الخامنئي وجهها للشعب الإيراني بمناسبة أربعينية الإمام الخميني 1368 هـ. ش.
2- أرشيف مشروع التأريخ لدور المرأة في المقاومة، جمعية الرابطة اللبنانية الثقافية
3- أرشيف مشروع التأريخ؛ نفس المصدر
4- نفس المصدر السابق
5- سورة الفتح، آية 28
6- سورة محمد آية 7
7- كلمة للسيد القائد في لقائه جمعاً من الرواديد ومداحي أهل البيت ع بمناسبة ولادة السيدة الزهراء عليها السلام.
الكاتبة: ميسون عبد الحسن رضا