أفادت وكالة أنباء الحوزة أن الباحث الإسلامي العراقي سماحة السيد هاشم الحيدري أجرى سلسلة حوارات حول قضية عاشوراء والنهج الحسيني، إذ تطرق في القسم الثاني من الحلقة السابعة إلى وضوح التكاليف الشرعية الاجتماعية منها والجهادية، وأن الصراع بين حق والباطل قائم في كل زمن، وعليه لا يسقط التكليف عن الإنسان، وفيما يلي نص الحوار.
المقدم: سماحة السيد! بعد أن أوضحنا مصدر التكليف، ومن أين يؤخذ، هل يمكن أن يلف الغموض التكليف الشرعي لاسيما فيما يرتبط بالتكاليف الصعبة الاجتماعية والجهادية؟
سماحة السيد: قطعاً لا، وقطعاً تكون واضحة، ولا يلفها الغموض، لماذا؟ لأنه إذا افترضنا أن التكاليف الصعبة مثل ثورة الامام الحسين ومثل قضية الغدير ومثل صراع موسى وفرعون، ومثل قضية الامام الكاظم وهو في السجن، ومثل إبراهيم وصراعه مع قومه ومع الطاغوت نمرود، إذا افترضنا أن التكاليف في هذه المسائل، وهي بالمناسبة موجودة في كل زمن؛ أي في كل زمن يجب أن يكون هناك فرعون وموسى، في كل زمن يجب أن يكون هناك حسين وإن كان بشكل آخر، طبعاً لا أقصد بنفس الدرجة ونفس الظروف، ولكن نفس الموقع، لأن الصراع بين الحق والباطل موجود دائماً، ولذلك إذا افترضنا أن الغموض هنا يمكن أن يكون موجوداً وهناك يمكن أن يكون موجوداً وهنا الحجة غير واضحه وهنا التكليف غير واضح والناس بالتالي تحاول الفرار من التكليف حتى إذا كان واضحاً، فما بالك إذا افترضنا هنالك غموض، ولذلك من باب تمام الحجة الإلهية؛ ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّة الْبَالِغَة﴾، أنا أعتقد أنه لا يمكن أن يكون التكليف غامضاً والدليل كربلاء وعاشوراء في حركة الإمام الحسين. فالإمام ألقى الحجة برسائله إلى البصرة وإلى الكوفة وإلى بقية الاماكن، وكان يمر في الطريق ويخاطب فلاناً، حتى إذا وجد خيمة يذهب أو يبعث رسولاً إليها، كما بالنسبة لزهير بن القين مثلاً الذي أرسل له رسولاً في الطريق. نعم قد هنالك شخص بعيد لم يسمع داعية الحسين، ولكن بشكل عام انتشر الخبر، خصوصاً إذا عرفنا أن الإمام الحسين وصل إلى مكة وفي موسم الحج أعلن قيامه في مؤتمرات صحفية وندوات وخطابات وبيانات وكلمات، وإحدى الأدلة على ذلك هي أنه عندما رفض الإمام الحسين البيعة في المدينة، وصل الخبر إلى الكوفة بأن الحسين بن علي رفض بيعة يزيد وتحرك ، فكاتب أهل الكوفة الإمام، ووصلت الرسائل إلى مكة، وهذا يدل على أن الخبر قد انتشر.
منذ رفض البيعة في المدينة وإلى يوم العاشر فترة طويله، وكانت هذه فترة إلقاء الحجة، ورغم أنّ الامام الحسين قد تصدى لنظام طاغوتي جائر، ولكن لم يسلك الطرق الخفية الملتوية ، بل أعلن رفض البيعة أمام الوالي في المدينة، ثم أخذ النساء والأطفال، وانطلق الركب الحسيني من المدينة إلى مكة في الطريق الرئيسي العام، والناس كانت تعرف أن هذا موكب الحسين عليه السلام. إذن كان الإمام من البداية معلناً بالثورة، وجزء منه من باب إلقاء الحجة ومن باب أن يسمع من يريد أن يتبع حتى يستطيع الاتباع ولا يقول أني لم أسمع ولم أعرف بهذا الأمر.
المقدم: سماحة السيد! قد تتعارض التكاليف فيما بينها أحياناً، فما هو تكليف الإنسان عندئذ، وهل نجد هذا الأمر في حركة الإمام الحسين عليه السلام؟
السيد: نعم قد تتعارض التكاليف، طبعاً هنا دائماً توجد مؤثرات على التكليف، بمعنى أن التكاليف تأتيها مؤثرات وأهواء وشهوات وأمثال ذلك، ولكن نحن في مرحلة أنه هل التكليف ملقى على الناس، وهل وصل إلى الناس؟ نقول نعم.
التكاليف قد تتعارض، وسوف نأتي بأمثلة في هذا المضمار، لكن أصل الفكرة أن هناك تعارض في التكاليف حتى في المسائل البسيطة، والتعارض يحصل مرة بين واجبين، ومرة بين واجب ومستحب وهكذا. يذكر الفقهاء هنا بعض الأمثلة، منها أن يبقى خمس دقائق لغروب الشمس، والمكلف لم يصلِّ بعد الظهر والعصر، والأولوية هنا أداء صلاة الظهر والعصر لأنه واجب، وتأخيره يؤدي إلى القضاء وهو غير جائز، ولكن في المقابل هناك شخص في حال غرق، هنا لمن الأولوية؟ لإنقاذ حياة الإنسان أو أداء الصلاة. أو مثلاً شخص اعتاد في كل ليلة جمعة على قراءة دعاء كميل، وأحد أصدقائه في المستشفى، وكلا العملين هنا مستحب، فأيهما أفضل؟ أن يقرأ دعاء كميل، أم يعود المريض وقد يطيّب خاطرة ويؤدي إلى أن يرتاح المريض نفسياً، وهكذا. .
يقول الامام القائد الخامنئي في هذا الموضوع: لو يبادر العالم الاسلامي وبالذات مفكروه إلى البحث في القضية الحسينية بشتى أبعادها وما أحاطها من تمهيدات ونتائج، ستتجلى للعيان سبل الحياة الإسلامية. فإن الحسين بن علي بادر في مقطعٍ حساس للغاية من التأريخ الإسلامي إلى تحديد واجبه الأصلي عن سائر الواجبات ذات الأهمية المتباينة في مراتبها، وأنجز ذلك الواجب الأصلي، ولم يخالطه الاشتباه - طبعاً هو المعصوم ولكن بالتالي نحن نأخذ من المعصوم الدروس - ولم يخالطه الاشتباه في معرفة ذلك الأمر الذي كان العالم الإسلامي بحاجة له، وهذه هي نقطة الضعف التي يعاني منها المسلمون في حياتهم.
إن الخطأ الذي يرتكبه أبناء الأمة وطلائع العالم الإسلامي على مر العهود، هو في تحديدهم للواجب الحقيقي بين الواجبات والتكاليف في مرحلة تاريخية ما مفصلية مثل قضيه كربلاء. حيث لا يعلمون الشي المهم الذي تتعين المبادرة إليه والتضحية من أجله وتمييزه عن سائر الأشياء على أهميتها، ولا يعرفون أي شيء يعد جانبياً وثانوياً، ولا يميزون بين الفرعي والأصلي وبين الأول والثاني وبين الأهم والمهم، ومنح كل حركة أو عمل الاهمية بقدر ما يحتاجه وبذل الجهد من أجله. هذه من الأمور التي وقعنا فيها ووقع فيها الكثير في العالم الاسلامي شيعة أم سنة، وهو تحديد الأولويات وتحديد الواجب الأساسي عن الواجب الثانوي والاصلي عن الفرعي والأهم والمهم، خصوصاً في المقاطع المهمة. فالامام الحسين هو المعصوم، ولكن يجب أن نأخذ الدروس منه، ولا نقول بأنه معصوم ولا شأن لنا به.
المقدم: سماحة السيد! قلتم إن تكاليف قد تتعارض، ولكن تبقى القاعدة هي تحديد الأولويات ضمن التكاليف؛ يعني يجب على الشخص أن تكون له معرفه في تحديد الأولويات، ولكن هل الشخص العادي مؤهل لهذا الأمر؟
السيد: هذا ينجر أيضاً إلى السؤال الأول: من أين نأخذ التكاليف؟ في المسائل المهمة المفصلية المنعطفة كعنوان التكليف الأصلي العام، الذي يبيّن التكليف هو الحجة. ولذلك يذكر سماحة السيد القائد في هذا المضمار أن الحسين بن علي قد أوضح في كلماته للجميع أهم واجبات العالم الإسلامي في تلك الظروف، وهو الصراع مع رأس القوة الطاغوتية. إذن بيّن الإمام الحسين التكليف، وأوضح للناس ما هو تكليفها لأنه هو الحجة الشرعية ويجب أن يبرئ الذمة ويلقي الحجة على الناس.
المقدم: قبل موضوع توضيح الإمام الحسين الواجب الأصلي للأمة، كي تعرف تكليفها؟ حين تتعارض التكاليف، كما إذا تعارضت بين أداء الصلاة وإنقاذ الغريق، كيف يشخص الإنسان العادي الأولوية؟ ربما يكون هذا المثال واضحاً فإن إنقاذ الغريق مقدم على الصلاة، ولكن أحياناً قد تكون غامضة بحيث يعجز الشخص غير الفقيه أو غير المتعلم غير المثقف دينياً أن يشخص ماذا يقدّم.
سماحة السيد: إذا كان البحث في الجزئيات لا في أصل التكليف العام، فهذا أيضاً يتبع البصيرة، علماً بأن البصيرة لا صلة لها بالعلم، يعني قد يكون الإنسان من أهل البصيرة وهو غير متعلم وقد يكون إنساناً متعلماً ولكن من غير أهل البصيرة، وهذا ما قد بيّناه في حلقة سابقة. إذن يجب على الإنسان في المسال الجزئية أن يجتهد وأن يبحث بنفسه، طبعاً إذا كان الانسان صادقاً مع نفسه ومع الله سبحانه وتعالى واقعاً، ويريد أداء التكليف العام الذي يشخصه الحجة، فإنه يصل بالتأكيد. ولكن الكلام أنه في بعض الأحيان بيّن المعصوم أوجب الواجبات بالشكل العام ولا يدخل في بالجزئيات، والإنسان عليه أن يشخص تكليفه. فالامام الحسين الآن يطلب مني نصرته أمام يزيد، وأنا أقول عندي مسجد وعندي صلاة جماعة وملتزم بصلاة الجماعة، وشتان بين هذا وذاك.
المقدم: شخص مؤهل علمياً ومؤهل عسكرياً، هل يقدم الجهاد على العلم أم العلم على الجهاد؟ وهو قادر على الإثنين معاً؟
سماحة السيد: إذا كان الجهاد عينياً كما في قضية عاشوراء، فإنه يشمل الجميع. فالإمام الحسين في ندائه لم يفرق بين أحد ولم يقل: من يتمكن من حمل السلاح فليأتِ معي، بل خاطب الجميع. ولذلك نجد بين الأصحاب حبيب به مظاهر الذي كان كبيراً في العمر. ولكن في بعض الأحيان يكون التكليف كفائياً، كأن يقال: يجب على من يستطيع حمل السلاح. فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض حروبه لم يأخذ كل الناس، بل أخذ ما فيه الكفاية وترك البقية في المدينة يحرسون النساء ويرعون شؤونهم. إذن فالحجة والمصدر المشرع هو الذي يبيّن للأمة أن هذا التكليف عيني على الجميع أم كفائي. وعلى سبيل المثال بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وبدء الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية، دعا الإمام الخميني إلى المشاركة في الحرب، ولكن مؤسسات الدولة بقيت ولم يقلّ الموظفون، وطلاب الجامعات أيضاً في فترة قال لهم الجبهة أهم وفي فترة أخرى طلب منهم العودة وممارسة الدراسة في الجامعات، فإن القائد هو الذي يحدد الأهم. إذن فإن من ضمن أدوار القائد ومهامه الشرعية إبراء الذمة، يعني يبيّن للناس التكليف بشكل واضح حتى لا تكون هناك حيرة لدى الناس. قد في التفاصيل مثلاً أنا لا أدري هل أبقى في الحوزة العلمية أو أذهب للقتال؟ هنا يمكن تشخيص ذلك من طبيعة القتال هل أنه قتال شرس أم لا، أو من خلال الفطرة والوجدان، أو من خطابات النبي أو الإمام المعصوم أو القائد، فإن قال: الحاجة لاتزال موجودة، فلتعطل الحوزات ولتغلق المساجد ولتغلق الحسينيات. أنا أعتقد أنّ هذا الموضوع لا يوجد فيه لبس أو غشاوة أو عدم وضوح.
المقدم: هل أوضح الامام الحسين (عليه السلام) الواجب الأصيل للأمة كي تعرف تكليفها؟
سماحة السيد: نعم كما ذكرت فقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام هذا الأمر كما يبيّن السيد القائد. بمعنى أن توضيح الامام الحسين يشمل هذا الأمر وهو الواجب الاصيل، ولذلك لم يأت أحد للإمام السجاد بعد ذلك مثلاً قائلاً له: لقد التبس عليّ الأمر ولم أعرف التكليف، والصورة كانت واضحة، ونبرة الخطاب وسقف الخطاب كان سقفاً عالياً بحيث أن الأمة شعرت بأنها مكلفة، ولكن هناك أسباب أخرى لم تدع الأمة تلتحق بالإمام الحسين عليه السلام. وفي قضية الواجب الأصلي، جاء الإمام الحسين إلى مكة في موسم الحج، ودخلها معتمراً وأنجز عمرة التمتع، وجاء اليوم الثامن من ذي الحجة والذي يسمى بيوم التروية، حيث يبدأ موسم الحج من يوم غد التاسع، والجميع كان ينتظر الحج، وإذا بالإمام الحسين تحرك إلى العراق في اليوم الثامن من ذي الحجة وخرج من مكة، وهذا بالطبع ما كان قد ذكره الإمام قبل يومٍ حيث قال: «إني راحلٌ غداً إن شاء الله»، وقد سمع الجميع بذلك. هنا يأتي تقديم الأولويات فإن الحج مسألة مهمة. وفي هذا المجال يقول السيد القائد: من البديهي أنه عليه السلام حينما يتوجه إلى العراق كي يسطّر ملحمة عاشوراء، فإنه هنا سيحرم من المكوث في المدينة، وتبليغ الأحكام، وتبيان علوم أهل البيت، وتعليم المسلمين وتربيتهم، وأن يتسنى له تعليم الناس الصلاة، ونقل أحاديث رسول الله، وبطبيعة الحال فإن حوزته تعطّلت وتوقّفت، ويتوقف نشر المعارف، وسوف يحرم من إعانة الأيتام. كل هذه توقفت لماذا؟ لأن هناك تكليف أصلي وهو مقارعة يزيد. إذن عندما نتحدث عن التكليف الأصلي، فلنعلم جيداً أن هناك تكاليف أخرى سوف تعطل وسوف تترك، ولكن على الإنسان أن يشخّص أيهما المهم وأيهما الأهم. هنا ومن موسم الحج يتجه الامام الحسين إلى العراق، واستمرار الثورة في هذا الطريق. فالإمام الحسين قد ضحى بتكاليف أخرى كما ذكرنا من قبيل الصلاة وتعليم الأحكام وغيرها كما ذكرها السيد القائد ونقلنا قوله، علماً بأن ترك الحج فيه جنبة إعلامية، وفيه صعقة للناس، لكي تُلقى الحجة بشكل كامل.
الأمر الآخر هو اصطحاب النساء والأطفال، وهنا يُطرح السؤال كما سأله البعض مثل محمد بن الحنفية قائلاً: يا أبا عبد الله! أنت ذاهب فلماذا تأخذ النساء والأطفال؟ هذا أيضاً من باب الأولوية. نحن تحدثنا عن الهدف والنتيجة وقلنا أن الامام خرج بهدفٍ وهو إنقاذ وإصلاح الأمة والإسلام، وكان مستعداً للنتيجتين إما الحكومة وإما الشهادة، فإن وصل إلى الحكومة، تذهب النساء معه الى القصر الرئاسي الذي في الكوفة ويحكم، ولكن لو وصل إلى الشهادة، فإنه يبحث عن استمرارٍ للحالة الإنقاذية، لأنه يعلم أن هناك سوف يكون تشويه وتكتيم وفبركات إعلاميه وأمثالها، فأخذ الأطفال والنساء لاستمرارية نهجه، وتعلمون أن قضيه العرض وحياة النساء والأطفال تعتبر من الأولويات، ولكن هنالك شيء أولى وهو إنقاذ الإسلام، وهذا أيضاً يدخل ضمن التكليف الأولى والأهم أن يأتي الثائر أو القائد ويأخذ معه النساء والأطفال. ففي الحروب عادة لا تشارك النساء والأطفال، فلا النبي ولا أمير المؤمنين كانوا يجلبون معهم النساء والأطفال في الحروب، ولكن لارتفاع سقف الهدف وخطورة الوضع على الإسلام، شخّص الإمام الحسين بأنّ وجود النساء والاطفال مكمل للعملية الإصلاحية والإنقاذية، ولذلك لم يتوان ولم يتردد في أن جاء بهم إلى كربلاء.