أفادت وكالة أنباء الحوزة أن الباحث الإسلامي العراقي سماحة السيد هاشم الحيدري أجرى سلسلة حوارات حول قضية عاشوراء والنهج الحسيني، إذ تطرق في القسم الرابع من الحلقة الثانية إلى تبين مفهوم البصيرة، بناء على الرواية: إنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، كما أن أفضل مصداق لصاحب البصيرة هو أبو الفضل العباس (ع)، وفيما يلي نص الحوار.
المقدم: سيدنا أريد ان أسأل هنا، هل يمكن اعتبار أن البصيرة ترادف الوعي؟
سماحة السيد: نعم يمكن، ولكن لا نذهب إلى الوعي بمعنى أنه محلل سياسي في إحدى الفضائيات، أو في برنامج سياسي؛ لا، قد يكون الإنسان طالب علوم سياسية أو دكتوراه في العلوم السياسية، ولكن لا يمتلك البصيرة، فالبصيرة هي أعمق من مجرد الوعي السياسي، نعم إلا إذا أُخذ الوعي بمعنى العمق الديني. وأما كيف نحصل على البصير فهذا طبعاًبحث آخر.
المقدم: أو حتى ما هي البصيرة هذا أيضاً بحث آخر
سماحة السيد: يمكن أن نعرّف البصيرة بأنها رؤية أو نسميها بحسب التعبير الحديث قراءة ما بين السطور. يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام في تعريف البصيرة أنه يقول: «إنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر»، لا أن نصدّق بكل خبر، نحن وللأسف نصدّق بكل خبر يبث في الفضائيات؛ هذه هي مشكلتنا، «ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر». «وانتفع بالعبر» يعني أن ينتفع بأولئك الذين فشلوا. ثم يقول في تتمة كلامه بأنه كان في جبهة ابن زياد ممن لم يكونوا فساقاً، فالكثير في جبهة ابن زياد من المتدينين والمصلين والصائمين ولم يكونوا فجاراً أو فساقاً، بل كانوا لا يمتلكون البصيرة فقط.
هنا أنقل روايتين على العجالة. . نحن عندما نذكر العباس، غالباً ما تتبادر شجاعته في أذهاننا، ولكن الامام السجاد (ع) حين أراد أن يصف العباس (ع)، قال: «كان عمنا العباس نافذ البصيرة». هذا الأساس وهذا العمق.
الرواية الثانية تصف بقية الأصحاب، فإنهم كانوا من أهل الطاعة وأهل الإيثار وأهل الشجاعة وأهل الفداء و. . . وهذا كله صحيح، ولكن الإمام الصادق (ع) وصفهم قائلاً: «إن أصحاب جدي الحسين (ع) هم أهل البصائر». فالبصيرة أساسية، لإنك إذا كنت تملك الدين، وتملك العشيرة، وتملك الوجاهة، وتملك حصانة من الذنوب، بل نجد السيد القائد يخاطب الشعب الإيراني وهو شعب المواقف ويقول لو أنّ شعباً كان مخلصاً لله، ومؤمناً ولكن فقد البصيرة لا فائدة من ذلك، بل ربما يتحول إلى جبهة الباطل. فقد يؤدي خبر بسيط ومؤامرة إعلامية وفبركة إعلامية إلى أن يخدع شعباً بكامله، وكم من شعوبنا وقعت في فخ البصيرة.
البصيرة بحسب تصوري واعتقادي تتلخص في أربعة مسالك أذكرها سريعاً. أولاً البصيرة في معرفة الحق، وهي التي تحدثنا فيها وأشرنا إليها، فالإنسان في معرفة الحق يحتاج إلى بصيرة.
ثانياً البصيرة في معرفة الباطل، فلا تقتصر المعرفة على الحق، بل ينبغي لي أن أعرف العدو أيضاً، «إني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم».
النقطة الثالثة البصيرة في معرفة الامتحان. . تعلم أنّ الدنيا دار امتحان وبلاء، ولكن ما هو امتحاني؟ أنا الآن امتحاني يختلف عن امتحانك؛ أنا أرتدي زيّ رجال الدين وامتحانيأصعب. يجب أن أشخّص امتحاني، ولكن إذا تساهلت في هذه القضية فشلت. فإن الإنسان عندما يذهب إلى الامتحان في الثانوية أو الكلية أو المدرسة، هل رأيت طالباً يأتي صباحاً إلى الامتحان ويسأل قبل شروع الامتحان، هل امتحاننا اليوم كيمياء أو فيزياء أو رياضيات؟ لا، يجب عليه أن يعرف الامتحان. الكثير منا لانعرف ما هو امتحاننا، علماًبأننا يجب أن ندخل في الامتحان، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾. وأكثر من ذلك، يجب على المؤمنين أن يعرفوا بشكل خاص لأن القرآن يقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ﴾. إذن من يدعي الإيمان، يُفتتن أكثر. فما هو امتحاني؟ قد يكون امتحاني صوت جميل، علم غزير، زي ديني، شكل جميل، وجاهة اجتماعية، مسؤولية ومنصب. فاليوم إذا حصل أحدٌ على منصب وأصبح رئيس وزراء أو رئيس دولة، سوف يسأله الله عنه، بل حتى في بعض الروايات أن الله يقول للمؤمن أو الإنسان: أعطيتك جاهاً فهل أغثت ملهوفاً وهل أعنت مظلوماً. إذن فالامتحان مهم.
والأخير البصيرة في معرفة التكليف. بعد كل هذا، وبعد أن عرفنا الحق وعرفنا الباطل وعرفنا الامتحان، تأتي النتيجة وهي معرفة التكليف، ماذا نفعل؟ الكوفة الآن يجب أن تكاتب الإمام الحسين (ع)، والتكليف هو كتابة الرسالة، لكن عندما جاء رسول الحسين (ع) مسلم ابن عقيل ودخل للكوفة، هل التكليف أن أكتب رسالة أم أن أنصر مسلم؟ الوعي والبصيرة في التكليف، لأن التكليف يتغير، صحيح أن الذي يشخّص التكليف هو سماحة القائد، ولكن تبقى الحاجة إلى البصيرة. نعم لابد من وجود القائد ولكن مع كل هذا يحتاج إلى وجود البصيرة حتى للتشخيص، وبالطبع كلما زاد الاعتقاد بالقائد الشرعي كلما زادت طرق النجاة والأمل بالنجاة، أما إذا كان اعتقاد الإنسان هوالنص، ففي ليلة العاشر عندما يقول الإمام الحسين (ع): «أنتم في حلٍّ من بيعتي»، يسكت ويذهب، أما العاشق العميق المعتقد الفاني الذائب، لا يذهب. هذا هو الذي يولد أصحاب الحسين (ع)، هذا هو الذي يولد حواريّي عيسى، هذا هو الذي يولد مالك الأشتر، هذا هو الذي يولد الشهيد عماد مغنية والسيد عباس والشهيد الصدر والسيد حسن نصر الله، هذا هو الذي يولد هذا العمق. نعم، الأساس هو القائد، ولكن كلما زاد الاعتقاد كلما قرب الإنسان من القائد، وكلما كان ممراً من القائد إلى الأمة، وهؤلاء العظماء أصبحوا ممراً ومرآة بين القائد ووليّ الأمر وبين الأمة، كما هو مالك الأشتر، حيث كان يمثل مرآة أمير المؤمنين (ع) في الأمة، وعمار كذلك. نحن إذا اكتفينا بالسطحية والشعائرية والطقوسية والعواطفية لا نصلإلى هذا المستوى ونقول: «يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً»، هذا يحتاج إلى عمل وجهد جهيد.
طبعاً البصيرة وحدها غير كافية، بل يأتي بحث الهوى، إذ قد تكون هناك بصيرة، ولكن إذا جاءت الأهواء والمغريات والدنيا، تتغلب على البصيرة. وهذا أيضاً يجب أن لا ننساه. ولكن أنا أنقل هنا رواية لأمير المؤمنين (ع) ربما تكون هي الجواب الشافي وحتماً كلام الأمير شافٍحيث يقول: «وثقوا بالقائد فاتّبعوه»، هذا الذي أشرت إليه قبل قليل؛ كلما عمق وزاد واشتد الوثوق بالقائد، لا تضرّ كلّ الفبركات وكلّ الفضائيات وكلّ الأهازيج والتصفيق والتهليل، ولذلك يخاطب النبي (ص) عمار ويقول له: «ياعمار لو سلك الناس كلهم وادياً وسلك علياوادياً فاسلك الوادي الذي سلكه علي». وهذا علي كل زمان؛ علي يعني الحق في كل زمن، فالوثوق به أولاً؛ أن أثق به وأن أعرفه وأن أؤمن به، وكلما اشتدّ هذا الإيمان لا تضر كل هذه المغريات، لأنه في كل زمان هناك إعلام مغرض. وأختم بالقول عندما ضرب أمير المؤمنين (ع) في المسجد، وصل الخبر إلى الشام، ولكن ماذا قالوا؟ قالوا متعجبين: أَوَ علي يصلي؟ تصوّر أنّشعباً بكامله في الشام صدّق أن علي بن أبي طالب (ع)، أمير المؤمنين، خليفة رسول الله بالحق لا يصلي، وهذا يدل على أن الإعلام اليوم كان آنذاك موجوداً بحد الأدنى.