وكالة أنباء الحوزة ـ قرأ الكاتب المسيحي، الأستاذ سليمان الكتاني كتابه "فاطمة الزهراء (ع) وتر في غمد" علی الإمام موسى الصدر فکتب الإمام هذه المقدمة التي تناول فيها شتى زوايا حياة السيدة الزهراء عليها السلام، و قد اشترک الکتاب في مسابقة في النجف الأشرف و نال الجائزة الأولی بتاریخ 22 سبتمبر 1968. وفيما يلي الحلقة الثالثة من التعليق:
وُلِدت فاطمة بعد مبعث الرسول الأكرم بخمس سنوات، أي قبل الهجرة بثماني سنوات وهي آخر أولاد رسول الله من خديجة. ولدت في مكة وفي بيت الوحي والجهاد، وفي أجواء الصبر والصمود وتحمل المشاق. وترعرعت في غمار العواطف الصادقة والحب الطاهر، المتبادل بين رسول الرحمة وبين خديجة التي ما نسي النبي عواطفها وإخلاصها طوال حياته.
هاجرت بعد رسول الله من مكة إلى المدينة مع الأخريات من أهل بيت النبي، وبرعاية علي بن أبي طالب والتحقوا جميعًا بموكب الهجرة في منزل قبا بالقرب من المدينة.
وتزوجت من علي بن أبي طالب في السنة الثانية من الهجرة، وهو في الثالثة والعشرين من عمره يعني حينما بلغت العاشرة. هذا هو المشهور في روايات آل البيت، وهو أقرب إلى السيرة المتبعة من استحباب الإسراع في تزويج البنات. حيث أن عمر فاطمة وقت زواجها من علي حسب هذا النقل يكون عشر سنوات، وبموجب النقل الثاني عن ابن عباس، وهو ولادتها قبل البعثة بخمس سنوات، يكون عمرها حال الزواج عشرين سنة. أما استغراب الحمل والولادة في السنين المتأخرة من حياة خديجة، فيرفعه إمكان حيض المرأة القرشية والنبطية إلى ستين سنة، وهذا أصل مشهور بين الفقهاء. وقد أكد النبي لأصحابه أن تفضيل علي من بين الخاطبين الكثر لفاطمة، كان بنصيحة من الغيب ولعدم رضاها بغير علي. لقد رضيت به دون سواه بالرغم من محاولات كثيرة بذلتها النساء في المدينة، حيث نصحن فاطمة بعدم الإقدام على الزواج من علي لفقره ولانصرافه للجهاد المستمر ولصلابته في ذات الله.
عاشت مع علي ثمان سنوات حياة مثالية، هي عنوان الحياة الزوجية وأنجبت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم ومحسن، الذي أجهضته بعد وفاة أبيها في الأحداث المؤلمة التي حدثت آنذاك.
وتوفيت بعد أبيها بأشهر قليلة ودفنت في مكان مجهول حسب وصيتها، كما وأن دفنها وتشييعها حصلا سرًا وفي الليل تنفيذًا لرغبتها. وبعض الآثار التاريخية والأحاديث المأثورة تؤكد أن قبرها في أحد الأماكن الثلاث: في البقيع أو في بيتها الملتصق، في زماننا هذا، بقبر النبي، أو في الروضة الشريفة التي هي بين محراب الرسول وقبره والتي تتميز الآن بأعمدة خاصة.
أما عمرها فيبلغ ثمانية عشر سنة وأشهر، وهو عمر قصير ولكنه مثال كامل شامل لحياة المرأة التي يريدها الله ويسعى لتحقيقها دين الله.
إن التعاليم الدينية تحتاج إلى نماذج من البشر يجسدونها، ويحققون تنفيذها تحقيقًا كاملًا لكي يخرجوها عن الفرضية المثالية (إيديالية)، ولكي لا يكون للناس على الله حجة.
وحينما أراد رسول الله أن يُباهل، (والمباهلة ابتهال إلى الله لكشف الحقيقة بعد عدم اقتناع الخصم بالحجة وقد كانت الوسيلة الناجعة الأخيرة في دعوة الأنبياء وفي نصرة الله للدين الحق)، وأُمر بذلك بموجب الآية الكريمة: (فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾ [آل عمران، 61]. فأصبح الرسول الأكرم في مقام عرض الأبناء والنساء والأنفس، الذين يمثلون رجال الإسلام ونساءه وأبناءه، عند ذلك اختار عليًا وفاطمة والحسنين معلنًا بذلك إيمانه بالحق وبتمثيل هؤلاء لدينه تمثيلًا كاملًا.
فلندرس بصورة موجزة هذه المرأة فاطمة الزهراء التي هي المثال الصحيح للمرأة المسلمة بعد هذا السرد المقتضب لحياتها.
أم أبيها:
إن فاطمة الفتاة تحاول أن تشارك في جهاد أبيها، فتسعى مخلصة لسد الفراغ العاطفي الذي كان يعيشه الرسول بعد أن فقد أبويه في أول حياته. وهذا الفراغ كان يزعج النبي، وينعكس على قلبه الرهيف المشتاق إلى الحب.
إن الرسول كان بحاجة إلى عطف الأم ورعايتها في حياته، وفي عمله الشاق والمضني، وفي مواجهة بيئته القاسية بالنسبة إليه، وقد وجد هذا كله في فاطمة.
إن التاريخ لا يحدثنا إلا نتفًا عن هذه المواقف الأمومية التي كانت تصدر عن فاطمة بالنسبة للرسول، ولكنه يؤكد نجاح فاطمة في هذه المحاولة التي أعادت إلى محمد الإكتفاء العاطفي، الذي ساعده دون شك في تحمل الأعباء الرسالية الكبرى.
إن التاريخ يؤكد هذا حينما ينقل تكرارًا عن لسانه: "فاطمة أم أبيها". وحينما نرى أنه كان يعاملها معاملة الأم فيقبل يدها، ويبدأ بزيارتها عند عودته إلى المدينة، ويودعها وينطلق من عندها إلى الأسفار والرحلات، وكأنه يتزود من هذا النبع الصافي عاطفة لسفره.
ومن ناحية أخرى، نجد أن إحساس النبي بالأبوة كان يتجسد في صلاته مع فاطمة، وحينما أُمر الناس بأن يخاطبوا محمدًا برسول الله ونفذت فاطمة هذا الأمر، منعها رسول الله وطلب منها أن تخاطبه "يا أبه".
ونلاحظ في سيرة الرسول الأكرم، كثرة دخوله عليها في حالات تعبه وآلامه، أو حينما يُجرح في الحروب أو حال جوعه أو فقره أو دخول ضيف عليه، ثم تقابله فاطمة الأم ترعاه وتحتضنه وتضمد جروحه وتخفف من آلامه، وتقابله فاطمة البنت تخدمه وتطيعه وتهيئ له ما يحتاج إليه، وهكذا نجد دورها العظيم في حياة رسول الله.
زوجة الإمام علي (ع):
يقول علي عليه السلام، "أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآني ضحك وقال: ما جاء بك يا أبا الحسن. قال: فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصرتي له وجهادي. فقال: يا علي صدقت، فأنت أفضل مما تذكر. فقلت يا رسول الله: فاطمة، تزوجنيها. فقال: يا علي، إنه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك. فدخل عليها فقامت فأخذت رداءه ونزعت نعليه وأتته بالوضوء فوضأته بيدها وغسلت رجليه ثم قعدت. فقال لها: يا فاطمة. فقالت: لبيك لبيك، حاجتك يا رسول الله. قال: إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه، وإني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئًا فما ترين؟ فسكتت ولم تولِ وجهها، ولم يرَ رسول الله فيها كراهة. فقام وهو يقول الله أكبر سكوتها اقرارها.
فأتاه جبرائيل فقال: يا محمد زوجها علي بن أبي طالب، فإن الله قد رضيها له ورضيه لها. قال علي: فزوجني رسول الله ثم أتاني فأخذ بيدي فقال: قم بسم الله وقل على بركة الله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله وتوكلت على الله. ثم جاء بي حتى اقعدني عندها، ثم قال: اللهم انهما أحب خلقك إليّ فأحبهما وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظًا، وإني أُعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم.
بهذه البساطة تمت مراسم الزواج وقد جعل علي درعه مهرًا، وصرفت قيمته لتجهيز البيت فاشترى بها الطيب وقميصًا بسبعة دراهم، وخمارًا بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية، وسريرًا مزملًا بشريط (أي ملفوف بخوص)، وفراشان من خيش مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها اذخر، وسترًا من صوف وحصيرًا هَجَريًا ورحى لليد، ومخصبًا من نحاس وسقاء من أدم وقعبًا (كأسٍ من خشب مقعر) للبن وشنًّا للماء ومطهرة وجرة خضراء وكيزان خزف. وهكذا تم التجهيز وقبض المهر.
وانتقلت فاطمة إلى بيت علي المؤلف من غرفة واحدة كانت لأم سلمة زوجة النبي، وصعد علي على ربوة هناك ونادى: أجيبوا إلى وليمة فاطمة، فأقبل الناس واشتركوا في فرحة آل بيت الرسول.
وبدأت فاطمة حياتها الجديدة في بيت علي، فكانت تقوم بواجبات البيت فتطحن وتعجن وتخبز وكان علي يشاركها في خدمات البيت، فكان يكنس البيت في بعض الأوقات ويحلب العنز ويحتطب ويستقي وقد قضى رسول الله بينهما، فوزع عليهما خدمات البيت فجعل لعلي ما هو في خارج الباب ولفاطمة ما دونه.
وأنجبت له الأولاد وكانت تقوم بتربيتهم وخدماتهم حتى تضايقت لكثرة الأعمال ولقيامها وحدها بها رعاية لفقر علي وكرمه.
وراجعت حسب طلب زوجها رسول الله لعله يساعدها على استخدام خادمة تعينها على بعض الأعمال، وسمعت أباها يعتذر عن ذلك ويذكرها بفقر الناس وكثرة أصحاب الصُّفة، أصحابه الفقراء الذين لا يملكون مسكنًا ولا قوتًا كافيًا.
وبعد فترة معينة تحسن وضع الأمة فيها، استجاب الرسول لطلبها وأرسل لها خادمة، فوزعت الخدمات البيتية بينها وبين الخادمة، فيوم لها ويوم لخادمتها دون تفاوت.
وأنهت فاطمة حياتها ملخصة تصرفاتها الزوجية في جملة تخاطب بها عليًا معتذرة مودعة: "يا ابن عم: ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتك"، ثم تموت مطمئنة حينما تسمع عليًا يقول لها: "معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم، وأشد خوفًا من الله أن أوبخك بمخالفتي، قد عزّ عليّ مفارقتك".
هذه النصوص أوجزتها هنا وهي تغنيني عن البحث والإيضاح حول حياتها البيتية.
المصدر: موقع الإمام موسى الصدر