عبّر الإمام الخامنئي عن «المقاومة» في «نداء الحجّ» الذي أطلقه هذا العام بأنّها ظاهرة مُذهلة قائلاً: «هذا الوعي الذاتي الإسلاميّ أنشأ ظاهرة مذهلة وإعجازيّة في قلب العالم الإسلاميّ، إذْ إنّ القوى الاستكباريّة تواجه مأزقاً كبيراً في التعامل معها. هذه الظاهرة اسمها "المقاومة" وحقيقتها هي ذاك التجلّي لقوّة الإيمان والجهاد والتوكّل». والمقاومة في فلسطين مع ما حقّقته من إنجازات، خاصّة خلال الأعوام الأخيرة، استطاعت جعل الكيان الصهيوني يواجه تحدّيات قاسية وأزمات عدة على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي. بعد معركة «سيف القُدس» في العام الماضي، نجحت حركات المقاومة الفلسطينيّة في تحقيق «توازن الرّعب» ضمن المواجهة مع الصهاينة. وفي اليمن أيضاً، رغم فرض حصار ثلاثيّ الجهات على هذا البلد، استطاعت المقاومة بقدراتها القتاليّة العالية وأيضاً شنّها الهجمات الصاروخيّة الواسعة على عمق أراضي المعتدين أن تجبرهم على قبول خطّة وقف النار التي اقترحتها الأمم المتّحدة. في الوقت عينه، أعلنت المقاومة في اليمن رغم ظروفها الصّعبة مرّات عدة دعمها الفلسطينيّين وجهوزيّتها للتصدّي للصهيونيّة، وهكذا يتجلّى الاتحاد والتلاحم بين حلف المقاومة في المنطقة مرّة أخرى.
في العراق أيضاً، أدّى تصدّي حركات المقاومة للمحتلّين الأمريكيّين إلى أن يُدرك المحتلّون جيّداً الخطوط الحمراء لدى المقاومة. فهجمات المقاومة المتعددة خلال الأشهر الأخيرة ضدّ القوافل اللوجستيّة لجيش المحتلّين في مختلف النقاط في العراق، وأيضاً تحليق طائرات الاستطلاع المسيّرة فوق المقرّات العسكريّة الأمريكيّة، جعلت الأمريكيّين لا يفكّرون إلا ما ندر في تجاوز الخطوط الحمر للمقاومة في العراق. وفي الوقت نفسه، تغلّبت سوريا بصفتها حلقة الوصل بين مختلف أجزاء محور المقاومة في المنطقة بعد 11 عاماً من الصّراع مع الإرهابيّين المحميّين من أمريكا والغرب على التكفيريّين. تخلُص الظروف الحالية إلى أنّ حلف المقاومة بات يتمتّع بقوّة وصلابة أكبر مقارنة مع العقد الفائت على الأقل.
فلسطين
فلسطين هي المحور والقضية. يمكن القول إن ما حدث في فلسطين، خاصة خلال معركة «سيف القدس» السنة الماضية، مهم جداً من الناحية الإستراتيجية. لقد بدأت القضيّة بمحاولة تهجير الاحتلال الإخوة الفلسطينيين من حي الشيخ جراح، لتتمكّن المقاومة في غزة من استعادة القرار والكلمة الفلسطينية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فرضت المقاومة الفلسطينية عملية ردع على الاحتلال الإسرائيلي نفسه، أي إيقاف الحرب في وقت قياسي إذا ما نظرنا إلى السنوات السابقة، وعدد الشهداء، وقد حدث ليس حصراً بسبب المعادلة التي فرضتها المقاومة بقصف المدن والتجمعات الرئيسية التي تحتوي على العدد الأكبر من النخبة الإدارية أو الذين يتمتعون بمستوى دخل عالٍ في تل أبيب ومحيطها، ولكن أيضاً بفرض ردع معين تبين من كلمات المُعلقين الصهاينة ومفكريهم بعد الحرب، إذ قالوا إن القائد يحيى السنوار في غزة خرج يلقي خطاب النصر كأنه لا يخاف من الكيان الصهيوني.
يمكن أن نستشرف العقلية التي تصرف بها الكيان الصهيوني في موضوع الخوف، فهو يعتمد على الخوف من أجل ترهيب شعوبنا العربية والإسلامية. المقاومة هنا استعادت من العدو هذا السلاح، أو سلاح الخوف، فصارت هي من تمتلكه، أي القدرة على ردع العدو، والظهور بمظهر غير المرتدع من العدو أمام مستوطنيه. إذن، أفقدت المقاومة بصورة أو بأخرى ثقة المستوطنين بقياداتهم العسكرية. وبناءً على استطلاع رأي تبيّن أكثر المستوطنين يعتقدون أن جيش الاحتلال لم يتمكن من فرض حسم عسكري منذ مدة طويلة جداً. هذا عنصر جديد جداً. العنصر الثالث في المعادلة كان خطر دخول أطراف أخرى أو توسع المعركة في غزة خلال «سيف القدس»، أي دخول أطراف أخرى من حلف المقاومة كما أعلن قادة المقاومة في غزة في خطاب الانتصار، حين قالوا إن هناك العديد من الأطراف التي كانت جاهزة وطلبت من المقاومة الاستعانة بها عند الحاجة، وليست الجبهات التقليدية في لبنان وسوريا فقط، بل أيضاً في اليمن حيث دخل الإخوة اليمنيون مباشرة على خط النار.
اليمن
اليمن كما نعلم قبل الثورة اليمنية وقبل العدوان الذي تعرض له كان بحكم موقعه الجغرافي بعيداً عن ساحة المواجهة مع العقدة الأساسيّة لسيطرة الاستكبار الغربي في منطقتنا، أي الكيان الصهيوني. ولكنهم اليوم تجاوزوا الأمر رغم هذا البُعد وأيضاً الحصار الذي يتعرضون له، والحرب الضروس التي يخوضونها مع العدوان السعودي-الأمريكي. هل يمكن أن تتخيلوا حجم التغيّر الجغرافي السياسي في المنطقة إذا ما انتصر اليمن، إن شاء الله؟ ستتبدّل المعادلات بأسرها، وستُحرم القوات الغربية، بحكم الموقع الإستراتيجي لليمن، حريةَ العمل في البحار المطلة على منطقتنا العربية الإسلامية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ستتوفر قاعدة أساسية لدعم المقاومة في المنطقة. لا يقتصر التغيير على الناحية الإقليمية فحسب، بل يشمل المستوى الدولي.
هذا البلد الذي دوماً كان من أفقر الدول المضطهدة التي كان مقدّراً لها وفق هذا النظام العالمي أن تبقى مستعبدةً لهذا النظام وفقيرةً ثار ورفض هذه الظروف كلها التي كان يضعها العالم الغربي، قائلاً أريد أن أصير طرفاً في هذا الحلف وأن أشارك في قضايا أهل المنطقة، ولا أريد أن أنعزل عن القضايا الأساسية وفي مقدمها قضية فلسطين. لقد دخلوا من هذا الباب الأساسي، أي لم ينتظروا كي ينتصروا في الحرب ولكن في خضم الحرب والحصار أعلنوا جهوزيتهم للدخول وهذا تغيّر نوعي.
أفغانستان
في ما يخص أفغانستان، تمكن الإشارة إلى الانسحاب الأمريكي من هذه البلاد. يحمل هذا الموضوع وجهين. ثمة وجه يتمثل في انسحاب القوات الأمريكية من منطقة كانت تراها إستراتيجية ولم تدخلها بسبب أهدافها المعلنة عام 2001 للقضاء على تنظيم «القاعدة»، ولكن للحصول على يد طولى، أو هذا ما تخيلوه، وذلك بهدف التأثير في الدول المحيطة كإيران والصين، وكذلك دول آسيا الوسطى القريبة جغرافياً من روسيا. هناك عدد من الدراسات تتحدث عن أن التحالف كان مهزوماً منذ 2011 أو 2012، أي يئسوا من تحقيق أهدافهم الإستراتيجية في أفغانستان، والانسحاب تم بهذا الشكل ليس لأنه كان لديهم أمل في الانتصار، ولكن بقوا طوال تلك املدة لأن هناك معطيات جغرافية تفرض عليهم أن يكونوا بهذا الشكل وسط آسيا لمنع الربط بين شعوب المنطقة بوضوح. الوجه الآخر يتمثل في تخلّي أمريكا عن حلفائها، فطبقاً لعدد من التسريبات أو تصريحات المسؤولين في المنطقة العربية أعلن بعض مسؤولي المرتزقة أن هذا الإنسحاب يعطي صورة سيئة أمام حلفاء أمريكا. فأمريكا تخلت عنهم.
بناءً على اتفاقات التعاون الآن بين دول المنطقة المحيطة بأفغانستان يمكننا القول إن الوضع الحالي مفيد لحلف المقاومة على الأصعدة كافة: الاقتصادية والتجارية والسياسية، ومن ناحية كسر صورة الهيمنة والاستكبار في المنطقة، التي تضررت كثيراً جرّاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
العراق
تحاول أمريكا الخداع والبقاء والمحافظة على صيغة وجود قوات تحت تسمية مستشارين وغيرها في العراق، ولكن ليس لأنّها تريد أن تحترم سيادة العراق، وقد أثبتت أنها لا تحترمها أبداً وتنتهز الفرص كي تقلّل من سيادة العراق، بل كي تحافظ على هذا الوجود. لكن لماذا فعلت وتفعل ذلك؟ لأنها تخاف من رد الفعل لدى الشعب العراقي وفصائل المقاومة التي أعلنت أنها ستنظر إلى هذه القوات على أنها قوات احتلال. تدرك أمريكا هذه الخطوط الحمراء التي وضعتها المقاومة، وتبني حساباتها عليها، وتحاول أن تبقى بهذا الشكل غير المعلن، ولن تكون قادرة، إن شاء الله، ففصائل المقاومة قد توعدت بتنفيذ تهديداتها. أمريكا تخاف وتحسب الحسبان لتهديدات المقاومة العراقية وفصائلها، وهذا بحد ذاته إنجاز بالمقارنة مع المرحلة السابقة.
سوريا
سوريا طرف آخر في حلف المقاومة، وهي نقطة محورية جغرافياً للوصل بين مختلف أطراف هذا الحلف أو بين حلف القدس. سوريا تعرّضت منذ 2011 لحملات ليست حصراً في دعم مسلحين داخل حدودها من أجل إسقاط الدولة في سوريا المؤيدة والمشاركة بقوة في حلف المقاومة، بل أيضاً عبر حملات التهديد المستمرة بالضرب العسكري الغربي المباشر.
سوريا انتصرت في هذه الحرب على نحو لا لبس فيه، وسيطرت على المرافق الأساسية لكنها لا تزال تتعرض للحصار كما مختلف قوى حلف المقاومة، ولكن القيادة السورية أكدت دوماً وقوفها في حلف المقاومة رغم هذه التحديات كافة. هناك تحديات أساسيّة تواجهها سوريا في هذا الحين ومنها الوجود الأمريكي في الشرق السوري الذي يحرم الدولة عدداً من مواردها الطبيعية كالقمح والنفط والغاز التي توجد بمعظمها هناك ويسطو عليها علناً. هناك عدد من الإشارات تقول إن العمل ضد القوات الغربية في سوريا، التي تسيطر على الثروات الطبيعية هناك، سيبدأ بالتوازي مع العمل ضد القوات الأمريكية في العراق أيضاً نظراً إلى ما نعرفه من ترابط الساحتين جغرافياً وبشرياً وشعبياً. إننا نسمع كل مدة عن عمليات قصف صاروخي للقواعد الأمريكية في الشرق السوري.
كسر هيبة الاستكبار
عوداً إلى نقطة كنت قد ذكرتها سابقاً هي أنه لا يمكن أن نَحكم على مُنجزات مرحلة أو حدث معين دون المقارنة مع نقطة قياسية أخرى، يمكننا القول إن وضع حلف المقاومة أفضل بعشرات المرات مقارنة بما كان عليه في المدة السابقة، لأن هذا الحلف كَسَر الردع الإسرائيلي. إنّ الكيان الصهيوني عاجز حتى عن مهاجمة غزة في الوقت الحالي، وهو يحسب لها ألف حساب حتى في ردوده. يقول المعلقون الإسرائيليون إن من يريد الرد يجب ألا يعطي إنذارات. هذه إشارات بسيطة لكنها ذات دلالات عميقة جداً. كانت إسرائيل تهدد بالهجوم على كل من يتعرض لها يميناً ويساراً ولكنها عاجزة الآن عن التدخل على النحو السابق حتى مع قطاع غزّة الذي يعدّ أصغر الأطراف، من الناحيتين العملية والمادّية، في حلف المقاومة.
يمكن القول إنّ الهيبة كُسرت، أي كسر الاستكبار الإسرائيلي أو عامل الخوف الذي كانوا يستعملونه باستمرار من أجل التأثير في شعوبنا وسلب إرادتهم وأملهم في مواجهة مثل هذه الكتلة الغربية العالمية الكبيرة جداً. هذا هو حلف المقاومة الذي يزداد صلابةً يوما بعد يوم في هذه المعركة، ويعزّز أيضاً تحالفه وترابطه الجغرافي والبشري والعلمي والتقني. يجب ألا ننسى أننا من النقطة التي انطلقنا بها منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ومنذ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 أين كنا وأين صرنا. إنها مراحل تصاعدية باستمرار. يجب ألا ننسى أننا ننطلق بصفتنا مقاومين وثواراً على هذا النظام العالمي الاستكباري من نقطة هي أضعف مادياً من الطرف الآخر ولكنها أغنى من الناحية الروحية والمعنوية، ومن ناحية الإرادة والشجاعة، ومن ناحية الإصرار والإيمان بالقضية وبحق شعوبنا في الحياة والعيش بكرامة.