وكالة أنباء الحوزة - جاء حديث سماحته هذا، بمناسبة شهادة الامام الباقر (ع) التي كانت في السابع من شهر ذي الحجة الحرام لسنة ۱۱۴هـ عن عمر يناهز ۶۰ عاما امضاه في خدمة الاسلام والمسلمين درسا وتدريسا وتربية وتعليما، في وقت كان المسلمون يجهلون امور دينهم واحكام شريعتهم، لان الحكومات انذاك اهملت الشؤون الدينية اهمالا تاما حتى لم يعد البعض يفقه امور دينه بما في ذلك عدد ركعات الصلاة المفروضة، فراحوا يسألون الصحابة عن ذلك، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس عندما خطب في اخر شهر رمضان على منبر البصرة فقال: اخرجوا صدقة صومكم (زكاة الفطرة) فكأن الناس لم يعلموا، فقال: من اهل المدينة هاهنا لتعلموا اخوانكم فرضهم فانهم لا يعلمون؟
فمن اجل هذا وغيره تفرغ الامام الباقر (ع) الى نشر الفقه والعلم والمعرفة والابتعاد عن النزاعات السياسية ابتعادا مطلقا، فلم يشترك بأي عمل يتصادم مع الحكم القائم انذاك واتجه صوب العلم، فرفع مناره واسس قواعده وارسى اصوله، فكان الرائد والمعلم والقائد لهذه الامة في مسيرتها الثقافية، وقد سار بها خطوات واسعة في ميادين البحث العلمي مما يعد عاملا جوهريا في ازدهار الحياة الاسلامية وتكوين حضارتها في الاجيال التي جاءت بعدها.
وكان من اهم ما عني به الامام ابي جعفر (ع) (كما يقول الشيخ القرشي) هو نشر الفقه الاسلامي الذي يحمل روح الاسلام وجوهره وتفاعله مع الحياة، فسهر على احيائه واقام مدرسته الكبرى التي زخرت بكبار العلماء كأبان بن تغلب ومحمد بن مسلم وبريد الاسدي والفضيل بن يسار ومعروف بن خربوذ وزرارة بن اعين، وهؤلاء الاعلام ممن اجمعت العصابة على تصديقهم والاقرار لهم بالفقه واليهم يرجع الفضل في تدوين احاديث اهل البيت (ع) ، فلولاهم لضاعت تلك الثروة الفكرية الهائلة التي يعتز بها العالم الاسلامي، وهي احدى المدارك الاساسية لفقهاء الشيعة في استنباطهم للاحكام الشرعية.
والشيء الذي يدعو للاعتزاز من سيرة الامام (ع) بانه قد تبنى هؤلاء الفقهاء واشاد بهم وعزز مركزهم وارجع الامة الى فتاواهم.
يقول (ع) لأبان بن تغلب (اجلس في مجلس المدينة وافتي الناس فاني احب ان يرى في شيعتي مثلك) وقام بتسديد نفقاتهم وما يحتاجون اليه في حياتهم المعاشية ليتفرغوا الى تحصيل العلم وضبط قواعده وتدوينه، وعهد من بعده الى ولده الصادق (ع) القيام برعايتهم والانفاق عليهم حتى لا تشغلهم الحياة الاقتصادية عن القيام باداء مهماته، (وجريا على هذه السيرة تكفلت المرجعية على طول الزمن برواتب طلاب الحوزة واساتذتها دون اللجوء الى الارتباط بالدولة واوقافها لتكون مواقفها الدينية بذلك مستقلة عن الغير).
هذا وقد قام تلاميذ الامام (ع) بتدوين الحيديث الذي سمعوه منه (ع)، واخذوا يلقونه على البعثات الدينية حتى روى عنه تلميذه جابر الجعفي سبعين الف حديث، وروى ابان بن تغلب ثلاثين الف حديث، وقد حفلت الموسوعات الفقية بحشد كبير من الروايات عنه (ع) في جميع ابواب الفقه من العبادات وسائر العقود والايقاعات، فكان المؤسس والناشر لفقه اهل البيت (ع) الذي يحتل الصدارة في الفقه الاسلامي.
الى جانب هذا فقد تفوق (ع) على جميع اهل عصره في جميع الفضائل والكمالات ومكارم الاخلاق والصفات، فكان المرجع الاعلى للعلماء ومعلمهم جميعا في عصره، حتى روى الشيخ المفيد (ره) عن عبد الله بن عطاء المكي، قال: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (ع) ولقد رايت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه. وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي الباقر شيئا قال: حدثني وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين (ع).
وعن محمد بن مسلم (ره) وهو من اعيان تلامذة الامام انه قال (ما اشكل علي امر الا وسألت عنه ابا جعفر الباقر حتى سألته عن ثلاثين الف مسألة)، ولهذا التف حوله جمع غفير من بقايا الصحابة والتابعين وطلاب الحديث والفقهاء وكان (ع) يعقد مجالس الحوار والمناظرة مع الفلاسفة والدهريين والملحدين وغيرهم فيظهر عليهم بحجج باهرة وبمنطقه السليم وبيانه المستقيم ، من ذلك احتجاجه مع نافع مولى ابن عمر بن الخطاب الذي دخل الى المسجد الحرام فوجد الناس مجتمعة على الامام الباقر في ركن البيت، فقال نافع لهشام من هذا الذي قد تداك عليه الناس فقال له هشام: هذا نبي أهل العراق محمد بن علي بن الحسين فقال نافع لأسألنه عن مسائل لا يجيب عنها إلا نبي أو وصي نبي. فقال هشام اذهب وأسأله لعلك تخجله. فجاء نافع حتى اتكأ على الناس وأشرف على أبي جعفر (ع) وقال يا محمد بن علي أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من السنين؟ فرفع الباقر (ع) راسه وقال اما حسب قولي فخمسمائة سنة وما حسب قولك فستمائة سنة، وتسلسل بأسئلته الصعبة والامام يجب عليها فورا دون تردد، الى ان قال نافع بقيت عندي مسالة فقال له (ع) وما هي؟ فقال نافع أخبرني عن الله سبحانه متى كان؟ أي متى وجد؟ فقال الباقر (ع) ويلك ومتى لم يكن حتى أخبرك متى كان. ان الله أزلي أبدي لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولم يكن له شريك ولا شبيه. ثم قال له الإمام الباقر (ع) يا نافع ما تقول في أهل النهروان قتلوا على حق أم على باطل؟ فان قلت قتلوا على باطل فقد إرتددت عن مذهبك وإن قلت قتلوا على حق فقد كفرت. فسكت نافع وانصرف عنه وهو يقول أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً. ثم أتى إلى هشام فقال له هشام ما صنعت يا نافع؟ قال دعني من كلامك هذا والله أعلم الناس حقاً وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله حقاً ويحقّ لأصحابه أن يتخذوه نبياً.
وجاء في هذا السياق ما ذكره المؤرخون من أجتماعه باكبر علماء النصارى في الشام الذي كان لا يخرج اليهم الا مرة في السنة ليجيب على معضلات مسائلهم، غير انه هذه المرة توجه باسئلة الى الامام (ع) فاجابه على مسائله العديدة بانفتاح ودون تحسس، فاعجب النصارى واعتنق بعضهم الاسلام، الامر الذي افزع هشام وخاف ان يفتتن بحبه اهل الشام، فامر باعادته فورا الى المدينة، وقيل امر بحبسه بالشام، ولما علم بافتتان السجناء بحبه وقولهم بامامته اخرجه من السجن ورده الى المدينة، وصار يفكر بالقضاء عليه الى ان دس له السم على يد احد عملائه، وكان السم في سرج قدم الى الباقر (ع) كهدية، فاسرج به للامام وركب عليه، فلما نزل احس باثر السم في جسده ونفذ الى جوفه وبقي اياما يعاني الام السم والمرض الى ان استشهد في اليوم السابع من شهر ذي الحجة.