۱۶ اردیبهشت ۱۴۰۳ |۲۶ شوال ۱۴۴۵ | May 5, 2024
الاجتماع الثاني للجنة التعاون بين الحوزات العلمية في إيران ووزارة التربية بالعاصمة طهران

وكالة الحوزة / قدم الأستاذ السيد محمدباقر الخرسان محاضرة بمناسبة ذكرى رحيل الامام الخميني رضوان الله تعالى عليه في جامعة المصطفى (ص) المفتوحة تحت عنوان: شذرات من سيرة الامام الخميني في شهر رمضان، إذ تطرق فيها الى محطات من سيرة السيد الإمام في الشهر الفضيل.

وكالة أنباء الحوزة / قدم الأستاذ السيد محمدباقر الخرسان محاضرة بمناسبة ذكرى رحيل الامام الخميني رضوان الله تعالى عليه في جامعة المصطفى (ص) المفتوحة تحت عنوان: شذرات من سيرة الامام الخميني في شهر رمضان، إذ تطرق فيها الى محطات من سيرة السيد الإمام في الشهر الفضيل. 

وفيما يلي نص الكلمة: 

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ وأفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ على محمَّدٍ المصطفى وعلَى آلِ بيتِهِ الطيّبينَ الطاهرينَ.

{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25 – 28]

قالَ - تعالى - فِي مُحْكَمِ كتابِهِ المَجيدِ: أعوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]

وقالَ - تعالى - أيضًا: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]

بادئَ ذِي بدءٍ أباركُ لكُمْ حلولَ شهرِ رمضانَ المبارك، وأسألُ اللهَ - تعالى - أن يوفِّقَنَا وإيّاكُمْ للتزوّدِ بصالحِ الأعمالِ.. إنّهُ سميعٌ مجيبُ الدعواتِ.

تمرُّ علينَا فِي مثلِ هذَا اليومِ ذكرى رحيلِ مفجّرِ الثورةِ الإسلاميّةِ فِي إيرانَ الإمامِ الخمينيّ طيّب الله ثراه.. تلكَ الهامةُ الشامخةُ الّتي غيّرتْ مسارَ التاريخِ الحديثِ في العالمِ الإسلاميِّ المعاصرِ، وحقّقتْ حِلمَ الأنبياءِ كمَا قالَ الإمامُ الشهيدُ محمدباقر الصدر رَحِمَهُ اللهُ.

وبمَا أنّ مناسبةَ اليومِ تقترنُ بيومٍ منْ أيّامِ الشهرِ الفضيلِ، أرى لزامًا أَنْ أتحدّثَ باختصارٍ عَنْ شذراتٍ مضيئةٍ من سيرةِ الإمامِ الراحلِ في شهرِ رمضانَ. وسأجيب في هذه الأثناءِ عَنْ بعضِ الأسئلةِ مِنْ قبيلِ: لماذَا تزوّجَ الإمامُ الخمينيُّ – رحمه الله – في شهرِ رمضانَ؟ ولماذَا كانَ يَعْكِفُ على عدمِ استقبالِ الضيوفِ والوفودِ الرسميّةِ والحكوميّةِ فِي الشهرِ الكريمِ؟ وما هي ملاكاتُ قبولِ الصيامِ أساسًا فِي رؤيتِهِ رَحِمَهُ اللهُ؟

 

الضيافة الإلهية

بشكلٍ عامٍّ كانَ السيّدُ الإمامُ يؤكّدُ على مجموعةٍ من المفاهيمِ والمبادئِ فِي التعاطِي مَعَ الشهرِ الكريمِ لعلَّ مفهومَ الضيافةِ أبرَزَهَا، وسأتحدّثُ في المحطّةِ الأولى عن سيرةِ الإمامِ الخمينيِّ في التهيؤ لشهرِ الضيافةِ الإلهيّةِ، وعنِ الأعمالِ الّتِي كانَ يعكِفُ عليهَا أوْ يوصِي بهَا في هذَا الشهرِ الفضيلِ.

ومِنَ الطبيعيِّ أنّ يختلفَ مفهومُ هذهِ الضيافةِ عَنِ الضيافةِ المادّيّةِ والأكلِ والشربِ، فإنّهَا ضيافةٌ روحيّةٌ ومعنويّةٌ.

لكنْ مَا معنَى أننا في ضيافةِ اللهِ عزَّ وجلَّ في هذا الشهرِ؟ وهل هناكَ وقتٌ لسنَا فيهِ فِي ضيافةِ اللهِ سبحانه وتعالى؟ أولسنا دائمًا في ضيافةِ ربِّنَا نتقلّبُ على موائدِهِ ونتنعَّم بعطاياهُ؟

والإجابةُ واضحةٌ، نعمْ نحنُ دائمًا في ضيافةِ الرحمنِ عزَّ وجلَّ، بَيْدَ أنَّنَا فِي شهرِ رمضانَ المباركِ فِي ضيافةٍ خاصّةٍ.

إذْ يرفعُ اللهُ تعالى مستوَى الزمانِ في هذَا الشهرِ، فإذا بهِ أفضلُ الأزمنةِ، شهرٌ هوَ عندَ اللهِ أفضلُ الشهورِ، لياليهِ أفضلُ الليالِي، ساعاتُهُ أفضلُ الساعاتِ. ويرفعُ اللهُ تعالَى فِي هذَا الشهرِ أيضًا مستوَى المكانِ، فكلُّ الأمكنةِ هِيَ ظرفُ مكانٍ لضيافةِ الرحمن،ِ تمتدُّ عليهَا موائدُ هذهِ الضيافةِ الإلهيّةِ.

كما يرفعُ اللهُ سبحانَهُ مستوى الإنسانِ فيهِ، فباستطاعةِ كلِّ فردٍ أنْ يصلَ فِي هذَا الشهرِ إلَى مَا لَمْ يكنْ باستطاعَتِهِ أَنْ يَصِلَ إليهِ مِنْ قَبْلُ. لَقَدْ فَتَحَ أمامَنَا عزَّ وجلَّ سُبُلَ الجنَّةِ، والشياطينُ مغلولةٌ وأبوابُ النيرانِ مغلقةٌ، ومنحنَا الثوابَ الجزيلَ الَّذي لَا نطمعُ بِهِ فِي غيرِ شهرِ اللهِ تعالَى.

وقدْ كانتْ عظمةُ هذا الشهرِ الفضيلِ وكرامتُهُ سببًا لأنْ يتلظَّى قلبُ رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) والأئمّةِ الأطهارِ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ) انتظارًا لإشراقةِ هذَا الشهرِ المباركِ، وتغشاهُمْ مشاعرُ النشاطِ والشوقِ، تزامنًا معَ دخولِهِمْ فِي هذَا الشهرِ الفضيلِ، استعدادًا لأقصى درجاتِ التزوّدِ بنفحاتِهِ المباركةِ، وقَدْ وردَتْ رواياتٌ كثيرةٌ فِي هذَا المجالِ تؤكِّدُ هذَا المعنى.

وحسب مَا وردَ فِي الخطبةِ المنسوبةِ إلى الرسولِ الأكرمِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)، فإنَّ عبادَ اللهِ كافةً دُعُوا فِي شهرِ رمضانَ إلى ضيافةِ اللهِ تعالى، وإنَّ مُضَيّفَهُم هوَ اللهُ تباركَ وتعالَى، قال (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ): «أيُّهَا الناسُ.. إنَّهُ قَدْ أقبلَ إليكُمْ شهرُ اللهِ.. شهرٌ دعيتُمْ فيهِ إلى ضيافةِ اللهِ»، والخطابُ لَمْ يستثنِ أحدًا.. ولَمْ يخاطبِ المؤمنينَ بلْ خاطبَ الناسَ جميعًا..

إذنْ نحنُ أمامَ ضيافةٍ، ولكلِّ ضيافةٍ آدابٌ.. فمَا هِيَ آدابُ الضيافةِ الإلهيَّةِ فِي شهرِ رمضانَ؟

أولًا: معرفة المضيّف:

قالَ أمير المؤمنينَ عليٌّ (عليهِ السلامُ): يَا كميلُ، مَا مِنْ حَرَكَةٍ إلَّا وأنتَ تحتاجُ فيها إلى معرفةٍ.

وكمَا أسلفتُ فإنَّ الناسَ كافّةً دُعُواْ فِي هذَا الشهرِ إلى الضيافةِ الرمضانيّةِ، وإنَّ مُضَيِّفَهُمْ هوَ اللهُ تباركَ وتعالَى؛ ومن هنا ينبغي ـ على أقلِّ تقديرٍ ـ للضيفِ أَنْ يكونَ عارفًا بالمُضَيِّفِ مُدْرِكًا لمقامِهِ العظيمِ ذي العزَّةِ والجلالِ.. المقامِ الَّذِي كانَ الأنبياءُ العظامُ والأئمّةُ الكرامُ يَسْعَوْنَ دومًا إلى الاستزادةِ مِنْ معرفَتِهِ، والإحاطة بهِ إحاطةً كاملةً، وكانوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يصلواْ إلى مَعْدِنِ العظمَةِ هذَا: «وَأَنِرْ أبصارَ قُلُوبِنَا بضياءِ نظرِهَا إليكَ، حتَّى تَخْرِقَ أبصارُ القلوبِ حُجُبَ النورِ فَتَصِلَ إلَى مَعْدِنِ العظمةِ»، وإنَّ ضيافةَ اللهِ هِيَ «مَعْدِنُ الْعَظَمَةِ» هذَا. وقدْ دَعَا اللهُ سبحانَهُ عبادَهُ واستضافَهُمْ لِيُمَكِّنَهُمْ مِن بلوغِ مَعْدِنِ النورِ والعظمةِ.

قال الإمامُ الصادقُ (عليه السلامُ): لَو يعلم الناسُ ما في فَضلِ مَعرفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ما مَدُّوا أعينهم إلى ما مَتَّعَ اللهُ بهِ الأعداءَ مِنْ زَهْرَةِ هذهِ الحياةِ الدنيا ونعيمِهَا، وكانت دُنيَاهم أَقَلَّ عندَهُم مِمَّا يَطؤُونَهُ بأرجُلِهِم، وَلَنَعموا بمعرفةٍ الله عزَّ وجلَّ، وتلذَّذُوا به تَلَذُّذ من لم يَزَل في روضات الجنَّات مع أولياء الله. إِن معرفة الله عزَّ وجلَّ أُنْسٌ مِن كُلِّ وَحشةٍ، وصَاحِبٌ مِن كُلِّ وِحدَة، وَنُورٌ من كُلِّ ظُلمة، وقوَّةٌ مِن كُلِّ ضَعف، وشِفَاءٌ مِن كُلَّ سَقم).

لماذا يجبُ أنْ نعرفَ اللهَ تعالى؟ يجيبُ الإمامُ الباقرُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَنْ هذا السؤالِ بقولِه: إنَّمَا يعبدُ اللهَ مَنْ يعرفُ اللهَ. إذنْ معرفةُ اللهِ مقدّمةٌ لعبادتِهِ والتقرّبِ إليهِ.

ثانيًا: معاهدةُ النفسِ علَى اجتنابِ كلِّ فعلٍ يسيءُ إلى المضيّفِ

عَلَى المرءِ أَنْ يُعاهِدَ نفسَهُ قبلَ حلولِ الشهرِ عَلَى كفِّ اللسانِ عَنِ الْغِيبَةِ والتهمةِ والكذبِ والإساءةِ، وإخراجِ الحسدِ والحقدِ وسائرِ الصفاتِ الشيطانيّةِ القبيحةِ مِنْ القلبِ، وعلى تجنّبِ الأفعالِ والأقوالِ الّتي لا ترضِي اللهَ تباركَ وتعالَى. ويضربُ الإمامُ الخمينيُّ مثلًا لنَا فِي هذا المجالِ ويقولُ: إذا رأيتُمْ شخصًا يريدُ أن يغتابَ، فحاوِلُوا أن تردعوهُ وقولوا لهُ: لقد تعهّدنَا أن نجتنّبَ المحرّماتِ فِي هذَا الشهرِ. وإذَا لَمْ نتمكّنْ مِنْ ردعِهِ فمَا هوَ التكليفُ؟ يقول الإمام رَحِمَهُ اللهُ: إذَا لَمْ تستطيعوا منعَهُ مِنَ الاغتيابِ.. فاتركُوا المجلِسَ، فلا تجلسوا وتستمعوا إليهِ، يجبُ أنْ يأمَنَ المسلمونَ جانِبَكُمْ. ومن لا يأمن المسلمونَ يدَهُ ولسانَهُ وعينَهُ فهوَ فِي الحقيقةِ ليسَ بمسلمٍ. إنَّمَا هوَ مسلمٌ فِي الظاهرِ والاسمِ، وينطِقُ بـ "لا إله إلّا الله" ولا يعملُ بمقتضاها. فإذَا سوّلت لَكُمْ أنفسُكُمْ - لا سمح الله – إهانةَ أحدٍ من المسلمينَ واغتيابَهُ والمساسَ بكرامتِهِ، فاعلموا أنَّكُمْ تسيئون الأدب معَ عباد الله وأنتم في محضره وضيافته، وأنَّ إهانَةَ عبادِ اللهِ إهانةٌ للهِ تباركَ وتعالى. يقول الإمام الخمينيّ الراحلُ: منذُ لحظةِ تلبيةِ هذهِ الدعوةِ الكريمةِ، ينبغِي التحلّي بالآدابِ والأخلاقِ الّتي تجعلنا أهلًا لنيلِ رحمةِ اللهِ تباركَ وتعالَى وعنايتِهِ، فالصومُ لا يعنِي الإمساكَ عَنِ الطعامِ والشرابِ فحسبُ.. فحاولوا أنْ لا يكونَ صَوْمُكُمْ مقرونًا باقترافِ الذنوبِ، وفيمَا عدَا ذلكَ وعَلَى فرضِ أنَّ صيامَكُمْ كانَ صحيحًا مِنَ الناحيةِ الشرعيّةِ، فإنَّهُ لنْ يُقْبَلَ وَلا يُرفَعُ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّ ارتفاعَ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى وقبولَهَا لديهِ جلَّ وعلا يختلفُ كثيرًا عَنْ صحَّتِهَا الشرعيَّةِ. إنَّ واحدةً مِنَ الطرقِ الّتي تضمنُ قبولَ الصيامِ هِيَ الامتثالُ الدقيقُ والكاملُ لكلِّ المعاييرِ الأخلاقيَّةِ الشخصيّةِ والسياسيّةِ والاجتماعيّةِ، الّتِي يجبُ التعهّدُ أمامَ اللهِ تعالى بالالتزامِ بهَا قبلَ حلولِ شهرِ رمضانَ المباركِ؛ ليكونَ خلالَ شهرِ رمضانَ وأمانًا للنفسِ مِنَ الوقوعِ فِي المعاصِي، ودفعًا للاعتداءِ علَى الحياةِ الشخصيّةِ والاجتماعيّةِ للآخرين،َ وابتعادًا عَنِ انتهاكِ كرامةِ الأبرياءِ مِنْ عبادِ اللهِ الصالحينَ، وحائلًا دونَ بيعِ دينِنَا لأجلِ الوصولِ إلى الشهرةِ والسلطةِ والمالِ. عاهدوا أنفسَكُمْ مِنَ الآنَ على أَنْ تَكُفُّوا اللسانَ عَنِ الغيبةِ والتهمةِ والكذبِ والإساءةِ، وأَخْرِجُواْ مِنْ قلوبِكُمُ الحسدَ والحقدَ وسائرَ الصفاتِ الشيطانيّةِ القبيحةِ. حاولُواْ قَدْرَ المستطاعِ أَنْ تُحَقِّقُواْ مَعْنَى الانقطاعِ إلى اللهِ تعالَى، وأنْ تؤدُّواْ أعمالَكُمْ بعيدًا عَنِ الرياءِ، خالصةً لوجهِ اللهِ تعالَى، وانقطِعُوا عَنْ شياطينِ الإنسِ والجنِّ.

مع التأكيدِ عَلَى التوجّهِ إلى اللهِ بشكلٍ خاصٍّ قَبْلَ حلولِ الشهرِ الكريمِ، وليسَ فِي الشهرِ؛ ولذا كانَ الإمامُ – رحمه الله – يؤكّدُ عَلَى التهيّؤِ للشهرِ الكريمِ مِنْ شهرَيْ رَجَبٍ وشعبانَ.. فالطائرةُ عَلَى سبيلِ المثالِ لَا ترتَفِعُ فِي السماءِ دفعةً واحدةً.. وإنَّمَا تتزوّدُ بالوقودِ ثُمَّ تسيرُ فِي المدرَجِ الصحيحِ، وتزيدُ مِنْ سرعَتِهَا شيئًا فشيئًا، ثمَّ تُقْلِعُ عَنِ المدرجِ ثُمَّ تُحَلِّقُ عاليًا نحوَ مسارِهَا المنشودِ.. وهكذَا بالنسبةِ للتحليقِ فِي سماءِ الرحمةِ الإلهيَّةِ والسموِّ بالنفسِ نحوَ المعالي، فإنَّهُ يتطلَّبُ التزوُّدَ بالوقودِ مِنَ العملِ الصالحِ، والتخلّي عَنِ الوزنِ الزائدِ، أَيِ الذنوبِ الّتِي تُثْقِلُ كاهلَ الإنسانِ، وذلك من خلال التوبةِ عنِ الذنوبِ والمعاصِي السابقةِ، ثُمَّ يأتِي دورُ التحليقِ مِنْ خلالِ الصيامِ وقراءةِ القرآنِ والتهجّدِ والعبادَةِ. وهُنَا لا بدَّ أنْ أُشِيرَ إلى نقطةٍ مهمّةٍ وهِيَ أنَّ الإمامَ كانَ يؤكِّدُ علَى أهمّيّةِ التنبُّهِ لحقيقةِ الصيامِ، وَأَنْ يَعْرِفَ الإنسانُ جليًّا لماذَا يصومُ؟ فالصيامُ فِي رؤيةِ الإمامِ عَلَى صنفينِ: الأوّلُ: صومُ المبتدئينَ والثاني: صومُ رجالِ اللهِ. وإنَّ أضعفَ الإيمانِ فِي تهيئةِ النفسِ لهذهِ الضيافةِ العظيمةِ.. فصومُ المبتدئينَ يتمثَّلُ فِي التحلِّي ـ علَى الأقلِّ ـ بالآدابِ الصوريّةِ والظاهريَّةِ للصيامِ. (فالآدابُ الحقيقيّةُ موضوعٌ آخرُ، فهِيَ بحاجةٍ إلى جهدٍ وجدٍّ وتعبٍ)، وإنَّ آدابَ الصيامِ بالنسبةِ لرجالِ اللهِ الَّذِينَ يتطلّعونَ لبلوغِ مَعْدِنِ العظمةِ هِيَ شيءٌ آخرُ. وكانَ الإمامُ يوصِي بالعملِ - علَى الأقلِّ - بالآدابِ الأوّليّةِ للصيامِ، وهيَ إمساكُ البطنِ عَنِ الطعامِ والشرابِ، وإمساكُ العيونِ والأسماعِ والألسنِ عَنِ المعاصِي.

قالَ الإمامُ الصادقُ (عليهِ السلامُ): صومُ شهرِ رمضانَ فرضٌ فِي كلِّ عامٍ، وأدنَى مَا يتمُّ بهِ فرضُ صومِهِ العزيمةُ مِنْ قلبِ المؤمِنِ عَلَى صومِهِ بنيّةٍ صادقةٍ، وتركُ الأكلِ والشربِ والنكاحِ فِي نهارِهِ كلِّهِ، وأنْ يحفَظَ فِي صومِهِ جميعَ جوارحِهِ كلِّهَا مِنْ محارِمِ اللهِ ربِّهِ، متقرّبًا بذلكَ كلِّهِ إليهِ، فإذَا فعلَ ذلكَ كانَ مؤدّيًا لفرضِهِ.

إنَّ الَّذِي يجزِي مثلَ هذَا الصومِ هوَ اللهُ تباركَ وتعالى كمَا وردَ فِي الحديثِ القدسيِّ عنهُ جلَّ وعلَا: «الصومُ لِي وأنَا أجزِي بِهِ». فليسَ بمقدورِ شيءٍ آخرَ أنْ يكونَ ثمنًا لمثلِ هذَا الصومِ؛ حتَّى جناتُ النعيمِ لَا تعنِي شيئًا أمامَ صومِهِ، ولَا يمكنُ أنْ تكونَ ثمنًا لَهُ.

أمَّا إذَا أرادَ الإنسانُ أَنْ يكونَ صيامُهُ حبسَ الفمِ عَنِ الطعامِ وإطلاقَهُ فِي اغتيابِ الناسِ، وفِي قضاءِ ليالِي شهرِ رمضانَ المباركِ، حيثُ تكونُ المجالسُ الليليّةُ عامرةً وتوفّرُ فرصةً أكبرَ لتمضيةِ الوقتِ إلى الأسحارِ في اغتيابِ المسلمينَ وتوجيهِ التُّهَمِ والإهانَةِ لَهُمْ، فإنَّهُ لَنْ يجنِيَ مِنْ صومِهِ شيئًا؛ بلْ يكونُ بهذَا الصومِ قَدْ أساءَ آدابَ الضيافةِ وأضاعَ حقَّ وليِّ نعمتِهِ الَّذِي خلَقَ لَهُ كلَّ وسائلِ الحياةِ والراحةِ، ووفّرَ لَهُ أسبابَ التكامُلِ، حيثُ أرسلَ الأنبياءَ لهدايتِهِ وأنزلَ الكتبَ السماويّةَ، ومنحَ الإنسانَ القدرةَ للوصولِ إلى مَعْدِنِ العظمةِ والنورِ الأبهجِ، وأعطاهُ العقلَ والإدراكَ وكرّمَهُ بأنواعِ الكراماتِ.

قالَ أمير المؤمنينَ (عليهِ السلامُ): كَمْ مِنْ صائمٍ ليسَ لَهُ مِنْ صيامِهِ إلَّا الجوعُ والظمأُ، وكَمْ مِنْ قائمٍ لَيسَ لَهُ مِنْ قيامِهِ إلَّا السهرُ والعناءُ!

فهلْ يصِحُّ أَنْ يتمرَّدَ العبادُ الَّذِينَ نهلُواْ مِنْ نعمتِهِ واستفادواْ مِنْ أسبابِ الراحةِ الَّتِي وضَعَهَا تحتَ تصرُّفِهِمْ، أيصحُّ أن يتمرَّدُواْ عَلَى مولاهُمْ ومُضَيِّفِهِمْ ويقوموا لمعارضَتِهِ ويطغَوْا؟ لَقَدْ هيّأَ لَهُمُ اللهُ تباركَ وتعالَى كلَّ الأسبابِ، فهلْ يصحُّ أَنْ يسخِّرُوهَا لمعصيَتِهِ وخلافًا لمرضاتِهِ؟

أليسَ هذا كفرانًا للنعمةِ؛ بأَنْ يجلِسَ الإنسانُ إلَى مائدَةِ مولاهُ ثمَّ يتجرَّأُ عليهِ بأفعالِهِ القبيحةِ وتصرُّفَاتِهِ المشينةِ، ويسيءَ أدَبَهُ مع مُضَيِّفِهِ ووليِّ نعمتِهِ، ويرتكبَ أعمالًا قبيحةً لدى مُضَيِّفِهِ؟

ومِنْ هُنَا كانَ السيِّدُ الإمامُ يؤكِّدُ عَلَى عدَمِ معصيَةِ اللهِ فِي حضرتِهِ ويقولُ: الْعَالِمُ حضرةُ اللهِ فلَا تعصوا اللهَ فِي حضرَتِهِ.

والقصّةُ التاليةُ تختصرُ البيانَ فيمَا تقدَّمَ:

جاءَ رجلٌ إلى إبراهيمَ ابن أدهم، قالَ: يَا إمامُ إنَّ نفسِي تدفعُنِي إلى المعاصي فعِظْنِي موعظةً.

قالَ إبراهيمُ: إذَا دعتْكَ نفسُكَ إلَى معصيةِ اللهِ فاعْصِهِ ولا بأسَ عليكَ.

قالَ الرجلُ: سبحانَ اللهِ! أعصي اللهَ؟!

قالَ إبراهيمُ: نَعَمِ اعصِهِ ولكنْ لِي خمسُ شروطٍ.

قال الرجلُ: وما هِيَ؟

قال إبراهيمُ: إذا أردتَ أَنْ تعصِيَ اللهَ فاختبئ فِي مكانٍ لَا يراكَ فيهِ.

قال الرجلُ: سبحانَ اللهِ! كيفَ أختفِي عنهُ وهوَ الَّذِي لَا تخفَى عليهِ خافيةٌ؟!

قال إبراهيم: سبحانَ اللهِ! أمَا تستَحِي أنْ تعصِيَ اللهَ وهُوَ يراكَ؟!

سكتَ الرجلُ ثمَّ قالَ: زِدْنِي.

قالَ إبراهيمُ: إذَا أردتَ أنْ تعصِيَ اللهَ فَلَا تَعْصِهِ فَوْقَ أَرْضِهِ.

قال الرجلُ: سبحانَ اللهِ! فأينَ أذهبُ وكلُّ مَا فِي الكونِ لَهُ؟!

قالَ إبراهيمُ: أمَا تستَحِي مِنَ اللهِ وتسكُنُ فوقَ أرضِهِ؟!

قالَ الرجلُ: زِدْنِي.

قالَ إبراهيمُ: إذَا أردتَ أَنْ تَعْصِيَ اللهَ فَلَا تأكُلْ مِنْ رِزْقِهِ.

قالَ الرجلُ: سبحانَ اللهِ! وكيفَ أعيشُ وكلُّ النِّعَمِ مِنْ عِنْدِهِ.

قالَ إبراهيمُ: أمَا تستَحِي أَنْ تَعْصِيَ اللهَ وهُوَ يُطْعِمُكَ ويسقيكَ ويحفظُ عليكَ قوتَكَ؟!

ولسائلٍ أن يسألَ: كيفَ نعرفُ أَنَّنَا أدَّيْنَا حقَّ الضيافَةِ؟ هلْ هناكَ مِنْ مِجَسَّاتٍ وَعلاماتٍ؟

يقولُ الإمامُ الراحل فِي هذَا الصعيدِ: إذَا انقضَى شهرُ رمضانَ المباركِ ولَمْ يطرأْ علَى أعمالِكُمْ وسلوكِكُمْ أيُّ تغييرٍ، وَلَمْ يختلِفْ نهجُكُمْ وفعلُكُمْ عمَّا كَانَ عليهِ قبلَ شَهْرِ الصيامِ، فاعلمواْ أنَّ الصومَ الَّذِي طُلِبَ مِنْكُمْ لَمْ يتحقَّقْ، وأنَّ مَا أدَّيتموهُ لَمْ يكُنْ أكثرَ مِنْ صَوْمِ الحيواناتِ. لقدْ دُعِيتُمْ فِي هذَا الشهرِ الشريفِ إلَى ضيافةِ اللهِ تباركَ وتعالَى؛ فإذَا لَمْ تتحقّقْ معرفَتُكُمْ باللهِ، أَوْ لَمْ يُضَفْ لها، فاعلموا أنَّكُمْ لَمْ تُلَبُّوا دعوةَ اللهِ كمَا ينبغِي وَلَمْ تُؤَدُّوا حقَّ الضيافَةِ.

يجبُ أنْ تعلَمُوا أنَّهُ إذَا لَمْ تَتَمَكَّنُواْ فِي هذَا الشهرِ المباركِ، الَّذي هُوَ شهرُ اللهِ الّذي تُفْتَحُ فيهِ أبوابُ الرحمةِ الإلهيَّةِ للعبادِ، ويرسفُ فيهِ الشياطينُ والمردَةُ - كمَا تفيدُ الأحاديثُ - في الأغلالِ والقيودِ؛ إذَا لم تتمكَّنُواْ مِنْ إصلاحِ نفوسِكُمْ وتهذيبِهَا ومراقبةِ النفسِ الأمّارةِ والتحكُّمِ بهَا، وإذَا لَمْ تتمكَّنُواْ مِن سحقِ الأهواءِ النفسيَّةِ وقطعِ علائقِكُمُ المادَّيَّةِ بالدنيَا؛ فإنَّ مِنَ الصعبِ أن تقدِرُوا علَى ذلكَ بعدَ انتهاءِ شهرِ الصيامِ.

ثالثًا: كسبُ المعارفِ اللازمةِ حولَ عظمةِ شهرِ رمضانَ المباركِ وآثار صيامِهِ 

وبديهيٌّ أنَّ هذَا النوعَ مِنَ التعاطي سيتركُ آثارَهُ الوافرةَ علَى كلِّ أبعادِ الشخصيّةِ، وسيحدّدُ للمرءِ بكلِّ جدٍّ ومسؤوليّةٍ كيفيّةَ استقبالِ هذا الشهرِ الفضيلِ.. شهرِ نزولِ القرآنِ، وفيهِ ليالِي القدْرِ، وفيهِ تقدّرُ الأمورُ إلَى غيرِ ذلكَ مِنَ الآثارِ والبركاتِ.

قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ): إنَّ للجنّةِ بابًا يدعى الريّانَ لَا يدخلُ منهُ إلّا الصائمونَ.

وقالَ الإمامُ الباقرُ (عليهِ السلامُ): إنَّ لجُمََعِ شهرِ رمضانَ لفضلًا على جُمَعِ سائرِ الشهورِ، كفضلِ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) علَى سائِرِ الرسُلِ.

وقالَ (عليهِ السلامُ): لا تقولُوا هذَا رمضانُ، ولا ذَهَبَ رمضانُ، ولَا جاءَ رمضانُ، فإنَّ رمضانَ اسمٌ مِنْ أسماءِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا يجيءُ ولا يذهبُ، وإنَّما يجيءُ ويذهبُ الزائلُ... ولكن قولُوا: شهرُ رمضانَ، فالشهرُ المضافُ إلى الاسمِ، والاسمُ اسمُ اللهِ، وهوَ الشهرُ الّذي أُنْزِلَ فيهِ القرآنُ، جعلَهُ اللهُ تعالى مثلًا وعيدًا.

وقالَ الصادقُ (عليهِ السلامُ): لرمضانَ مِنَ الفضلِ وعظمِ الأجرِ مَا ليسَ لغيرِهِ مِنَ الشهورِ.

وقال النبيّ الأكرمُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ): لَوْ يعلمُ العبدُ مَا فِي رمضانَ، لودَّ أنْ يكونَ رمضانُ السنَةَ، فقال رجلٌ من خزاعةَ: يَا رسولَ اللهِ! ومَا فيهِ؟ فقالَ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ): إنَّ الجنَّةَ لَتَزَّيَّنُ لرمضانَ مِنَ الحولِ إلى الحولِ، فإذَا كانَ أوّلُ ليلةٍ مِنْ رمضانَ، هبّتِ الريحُ مِنْ تحتِ العرشِ، فصفّقتْ ورق الجنّةِ، فتنظرُ حورُ العينِ إلى ذلكَ، فَيَقُلْنَ: يا ربُّ! اجعلْ لنَا مِنْ عبادِكَ فِي هذَا الشهرِ أزواجًا، تقرُّ بِهِمْ أعينُنَا وتقرُّ أعينُهُمْ بِنَا.

وقالَ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ): أُعْطِيَتْ أُمَّتِي فِي شهرِ رمضانَ خمسَ خصالٍ لَمْ يُعطاها أحدٌ قبلهم: خلوفُ فَمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ. وتستغفرُ لَهُ الملائكةُ حتَّى يفطرُ. وتُصفّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشياطينِ، فلا يصلُوا فيهِ إلَى مَا كانوا يصلونَ فِي غيرِهِ.

وعنِ الإمامِ الصادقِ (عليهِ السلامُ) فِي حديثٍ طويلٍ يقولُ في آخِرِهِ: إنَّ أبوابَ السماءِ تُفتَّحُ فِي شهرِ رمضانَ، وتُصفّدُ الشياطينُ، وتُقبلُ أعمالُ المؤمنينَ، نِعْمََ الشهرُ شهرُ رمضانَ! كانَ يُسمَّى على عهدِ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) المرزوقَ.

وعنهُ (عليهِ السلامُ): رأسُ السنةِ ليلةُ القدرِ يكتبُ فيهَا مَا يكونُ مِنَ السنةِ إلى السنةِ. وبناءً على هذه الروايةِ الأخيرةِ وغيرِهَا كانَ السيُّد ابنُ طاووسٍ يعتقدُ بأنَّ السنةَ العباديّةَ تبدأُ بشهرِ رمضانَ وليسَ فِي محرَّمٍ الحرامِ.

رابعًا: التوبةُ

ركَّزَ الإمامُ الخمينيُّ كثيرًا عَلَى أهمّيّةِ موضوعِ تركِ المعاصِي والذنوبِ بوصفِهِ شرطًا للدخولِ فِي الحضرةِ الإلهيّةِ. فالاستغفارُ قبلَ حلولِ الشهرِ الكريمِ والتفكيرُ في إصلاحِ الذاتِ والتوجُّهِ إلَى البارئِ والتوبةُ عنِ الذنوبِ وتدريبُ اللسانِ علَى ذِكْرِ اللهِ ومناجاتِهِ، والابتعادُ عَنِ الغيبةِ والتهمةِ والنميمةِ وأيِّ ذنبٍ آخرُ؛ أمورٌ لهَا مدخليّةٌ مباشرةٌ فِي تحقيقِ الغايةِ المنشودَةِ. لقدْ دعَا اللهُ تباركَ وتعالَى العبادَ لكلِّ الخيراتِ والْمَبَرَّاتِ والكثيرِ مِنَ اللذائذِ الروحيّةِ والمعنويّةِ. ولكنْ إذَا لَمْ يكنِ العبادُ أهلًا للحضورِ فِي مثلِ هذهِ المقاماتِ الساميةِ، فلنْ يتمكَّنُواْ مِنْ بلوغِ ذلكَ؛ فكيفَ يمكنُ الحضورُ فِي حضرةِ الحقِّ تعالى والدخولُ فِي ضيافةِ ربِّ الأربابِ الَّذِي هوَ «مَعْدِنُ الْعَظَمَةِ»، معَ كلِّ هذهِ التلوّثاتِ الروحيّةِ والرذائلِ الأخلاقيّةِ والمعاصِي القلبيّةِ والظاهريّةِ؟!

إنَّ الأمرَ بحاجةٍ إلَى لياقةٍ واستحقاقٍ، ولا يمكنُ إدراكُ هذهِ المعاني بوجوهٍ مسودّةٍ وقلوبٍ ملوّثةٍ بالمعاصِي وملطّخةٍ بالآثامِ. فلا بدَّ مِنْ تمزيقِ هذهِ الحجبِ وإزالَةِ هذهِ الغشاوةِ المظلمةِ الّتِي كَسَتِ القلوبَ ومنعتهَا مِنَ الوصولِ إلَى اللهِ، حتَّى يُمْكِنَ الدخولُ فِي المجلسِ الإلهيِّ النورانيِّ ذِي العظمةِ.

وفِي مَعْرِضِ حديثِي لَا بأسَ أَنْ أشيرَ إلى طبيعةِ هذهِ التوبةِ عَلَى لسانِ السيِّدِ ابنِ طاووسٍ – رحمه الله – الّتي ذَكَرَهَا فِي كتابِ (إقبالُ الأعمال). يقولُ رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ النقطةَ المركزيّةَ فِي ذلكَ حالةُ القلبِ فِي مجالِ الاعترافِ بالخطإِ وطلبِ الصفحِ، فلوْ أنَّ شخصًا أساءَ إليكَ وَقِيلَ لكَ إنَّهُ جاءَ يعتذرُ، وعندما دخلَ عليكَ، لَمْ تَرَ فِي وجهِهِ سيماءَ الاعتذارِ، ولا شيئًا من علاماتِهِ، فمَا هُوَ إحساسُكَ؟ وما هِيَ ردَّةُ فعلِكَ؟ والأشدُّ مِنْ ذلكَ أنْ ترَى عليهِ علاماتِ الإقامَةِ على التعالِي والإصرارِ! قدْ تسمعُ مِنْهُ أحيانًا كلامَ الاعتذار، إلّا أنَّكَ تقرأُ فِي وجهِهِ أنَّهُ لَا يريدُ ذلكَ إطلاقًا. إنَّ هناكَ معادلةً معيّنةً دفعتهُ مرغمًا على المجيءِ إليكَ، فيحاولُ أنْ يقولَ: إذَا كُنْتَ قَدْ فَهِمْتَ أَنِّي مُخْطِئٌ فأنَا أعتذرُ أوْ مَا شابَهَ!

الإمامُ السجّادُ عليهِ السلامُ فِي دعاءِ السحرِ، يدعونا أَنْ يقولَ أحدُنَا بوضوحٍ وصراحةٍ دونَ أدنَى إبهامٍ: "أنَا صاحبُ الدواهِي العظمَى، أنَا الَّذِي علَى سيِّدِهِ اجترى، أنَا الَّذِي عَصَيْتُ جبَّارَ السما، أنَا الَّذِي أمرتَنِي فعصيتُ، ونهيتَنِي فمَا ارْعَوَيْتَ"، مطلوبٌ أنْ نُجَسِّدَ الاعترافَ الحقيقيَّ بالمعصيَةِ والجرأةِ والتمرّدِ، وبمقدارِ عُمْقِ هذا الاعترافِ، يكونُ الأمَلُ بالاستجابَةِ والقبولِ أكبرُ. إنَّكَ عندَمَا تلمسُ المصداقيّةَ والوضوحَ مِنْ شخصٍ يريدُ أنْ يعتذِرَ مِنْكَ، تجدُ أنَّ كلَّ ذرَّةٍ مِنْ كيانِكَ تُلِحُّ عليكَ أَنْ تصفَحَ عنهُ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ اعتذارَهُ، ولا تَمْلِكُ إلّا أنْ تستجيبَ لِطَلَبِهِ بأفضلِ صورةٍ ممكنةٍ. إذنْ حُسْنُ الاعتذارِ هُوَ المدخلُ إلَى حُسْنِ الإجابةِ.

خامسًا: شكرُ المضيّفِ عَلَى الاستضافةِ وإتاحةِ فرصةِ الحضورِ فِي ضيافةِ شهرِ رمضانَ

فالنقاطُ السابقةُ جميعًا كانَتْ تسبِقُ حلولَ شهرِ رمضانَ أمَّا هنَا فنحنُ مَعَ فتحِ أبوابِ الشهرِ الكريمِ، وأوَّلُ ما نستقبلُ بِهِ أنْ نصلِّي صلَاةَ الشُّكْرِ.. ونشكرَ اللهَ تعالَى لأنَّهُ أبقانَا وسلّمنَا ووفّقَنَا لبلوغِ الشهرِ مرَّةً أخرى، ونشكرَهُ لأنَّهُ أبقانَا أحياءً ليكونَ باستطاعَتِنا أنْ نتزوَّدَ مِنْ معينِ الشهرِ الفضيلِ. نَحْمَدُهُ ونُثْنِي عليهِ بكلِّ مَا تَقْدِرُ علَى أدائِهِ الأيدِي والألسنُ؛ لأنَّهُ تعالَى قَدْ أعادَنَا إلَى ضيافَتِهِ، والجلوسِ إلَى مائدَةِ نعمتِهِ.

قالَ الإمامُ الصادقُ (عليهِ السلامُ): إذَا رأيتَ هلالَ شهرِ رمضانَ، فَلَا تُشِرْ إليهِ بالأصابعِ، ولكنِ استقبلِ القبلَةَ، وارفعْ يَدَيْكَ إلَى السماءِ، وخاطبِ الهلالَ تقولُ: ربِّي وربُّكَ اللهُ ربُّ العالمينَ. اللهمَّ أهلَّهُ علينَا بالأمنِ والإيمانِ، والسلامَةِ والإسلامِ، والمسارعةِ إلى ما تحبُّ وترضَى. اللّهمّ بارِكْ لنَا فِي شهرِنَا هذَا، وارزقْنَا عونَهُ وخيرَهُ، واصرِفْ عنَّا ضُرَّهُ وشرَّهُ، وبلاءَهُ وفتنتَهُ.

سادسًا: التفرّغُ للطاعةِ لا سيّمَا الأُنْسُ بالقرآنِ

يعدُّ شهرُ رمضانَ شهرَ الطاعةِ والغفرانِ، وهوَ ربيعُ القرآنِ كمَا وردَ فِي الأثرِ. قالَ الإمامُ الباقرُ عليهِ السلامُ: لكلِّ شيءٍ ربيعٌ، وربيعُ القرآنِ شهرُ رمضانَ.

وقدْ وردَتْ أحاديثُ كثيرةٌ فِي فضلِ قراءَةِ القرآنِ فِي شهرِ رمضانَ، حتَّى قالَ الرسولُ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ): "مَنْ قرأَ فِي شهرِ رمضانَ آيةً مِنْ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ كانَ كَمَنْ ختَمَ القرآنَ فِي غيرِهِ مِنَ الشهورِ".

وَعَنِ أبِي عبدِ اللهِ (عليهِ السلامُ) قالَ: مَنْ قرأَ القرآنَ وَهُوَ شابٌّ مُؤمِنٌ اختلطَ القرآنُ بلحمِهِ ودمِهِ وجعلَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ مَعَ السَّفَرَةِ الكرامِ الْبَرَرَةِ، وَكَانَ القرآنُ حجيزًا عَنْهُ يومَ القيامةِ يقولُ: يَا ربُّ إنَّ كلَّ عاملٍ قَدْ أصابَ أجرَ عَمَلِهِ غَيْرَ عاملِي، فبلغ بهِ أكرمَ عطاياك، قال: فَيَكْسُوهُ اللهُ العزيزُ الجبّارُ حُلَّتَيْنِ مِن حُلَلِ الجنَّةِ ويوضعُ عَلَى رأسِهِ تاجُ الكرامَةِ ثمَّ يقالُ لَهُ: هلْ أرضيناكَ فيهِ؟ فيقول القرآنُ: يَا ربُّ قَدْ كُنْتُ أرغبُ لَهُ فيمَا هُوَ أفضلُ مِن هذَا، فَيُعْطَى الأمنَ بيمينِهِ وَالْخُلْدَ بِيَسَارِهِ، ثُمَّ يَدْخُلُ الجنَّةَ فيقالُ لَهُ: اقرأْ واصْعَدْ درجةً، ثُمَّ يقالُ لَهُ: هل بلغنا بهِ وأرضيناكَ فيقولُ: نَعَمْ. قالَ: وَمَنْ قرأَهُ كثيرًا وتعاهَدَهُ بمشقّةٍ مِنْ شدّةِ حِفْظِهِ أعطاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ أجرَ هذا مرَّتَيْنِ.

وبالنسبة إلى صاحبِ الذكرى رَحِمَهُ اللهُ، فإنَّهُ كانََ كثيرَ الأُنْسِ بالقرآنِ، ومواظبًا على تلاوتِهِ يوميًّا وُهُوَ فِي مقتبلِ الْعُمُرِ، إذْ خَتَمَ القرآنَ فِي سنِّ السابعةِ مِنْ عُمُرِهِ، وهكذَا استمرَّ حتَّى الأيَّامِ الأخيرةِ مِنْ عُمُرِهِ الَّتِي سبقَتْ إجراءَ عمليَّتِهِ الجراحيّةِ.

والموضوعُ يختلِفُ تمامًا عندما نتحدّثُ عَنْ شهرِ رمضانَ.. فعَلَى الرغمِ مِنْ كَثْرَةِ مشاغِلِهِ، فإنَّهُ كانَ يُولِي أهمّيّةً خاصّةً لأداءِ المستحبّاتِ؛ إذْ كانَ شديدَ الإقبالِ عَلَى تلاوةِ القرآنِ فِي شهرِ رمضانَ المباركِ خاصّةً، ويختمُ القرآنَ عدَّةَ مرّاتٍ.

وكانَ الإمام – رَحِمَهُ اللهُ – يجتهِدُ فِي التعبّدِ للهِ في شهرِ رمضانَ، وكانَ سببُ التزامِ الإمامِ بإلغاءِ لقاءاتِهِ فِي شهرِ رمضانَ هُوَ ميلُهُ للتفرّغِ أكثرَ للدعاءِ وتلاوةِ القرآنِ والاجتهادِ فِي العملِ عمومًا وإصلاحِ النفسِ، وكانَ يقولُ: إنَّ شهرَ رمضانَ بحدِّ ذاتِهِ هوَ عملٌ.

ففِي ضوءِ النَّظْمِ الدقيقِ الّذِي اتّسَمَتْ بِهِ حياتُهُ، خصَّصَ سماحَتُهُ ساعةً معيّنهً لتلاوَةِ القرآنِ المجيدِ والأنسِ بهِ, وخلالَ هذهِ الساعةِ لا يَدْخُلُ عليهِ أحدٌ, ولا يردُّ علَى سؤالِ أحدٍ, وكانَ يعيشُ مَعَ القرآنِ تمامًا ويتمعّنُ فِي الآياتِ القرآنيّةِ ومعانيهَا.

ومِنْ طَريفِ القولِ أنَّ الإمامَ – رحمه الله – عندَمَا كانَ فِي النجفِ, شَعَرَ بأنَّ عَيْنَيْهِ تؤلمانِهِ، فجاءَ الطبيبُ وفحصَ عَيْنَيْهِ, ونصحَهُ قائلًا: لَا تقرإِ القرآنَ بعضَ الوقتِ واسترحْ قليلًا. فَضَحِكَ الإمامُ وقالَ: أيُّهَا الدكتورُ! أنَا أُريدُ عينيَّ مِنْ أجلِ تلاوةِ القرآنِ, فمَا جدوى أنْ تكونَ عِندِي عينانِ ولا أقرأُ القرآنَ؟! عليكَ أنْ تفعلَ شيئًا كَيْ أتمكَّنَ مِنْ تلاوةِ القرآنِ.

وكان – رحمه الله تعالى – يبجّلُ قرّاءَ القرآنِ: فذاتَ مرّةٍ دخلَ الإمامُ حسينيّة جماران لتحيّةِ الجماهيرِ الّتي احتشدتْ للقائِهِ, وبدلًا مِنْ أنْ يَجْلِسَ على الكرسيِّ المخصّصِ لَهُ, مثْلَمَا يحدثُ فِي كلِّ مرَّةٍ، اختارَ الجلوسَ علَى الأرضِ بنحوٍ غيرِ متوقّعٍ. وكانَ ذلكَ لدَى مجيءِ الفائزينَ بمسابقاتِ تلاوَةِ القرآنِ للقاءِ سماحتِهِ. وكانَ قدْ تقرَّرَ أَنْ تُتْلَى آياتٌ مِنَ القرآنِ فِي تلكَ الجلسةِ.

وكان – رحمه الله تعالى – يبجّلُ قرّاءَ القرآنِ: فذاتَ مرّةٍ دخلَ الإمامُ حسينيّة جماران لتحيّةِ الجماهيرِ الّتي احتشدتْ للقائِهِ, وبدلًا مِنْ أنْ يَجْلِسَ على الكرسيِّ المخصّصِ لَهُ, مثْلَمَا يحدثُ فِي كلِّ مرَّةٍ، اختارَ الجلوسَ علَى الأرضِ بنحوٍ غيرِ متوقّعٍ. وكانَ ذلكَ لدَى مجيءِ الفائزينَ بمسابقاتِ تلاوَةِ القرآنِ للقاءِ سماحتِهِ. وكانَ قدْ تقرَّرَ أَنْ تُتْلَى آياتٌ مِنَ القرآنِ فِي تلكَ الجلسةِ.

وكان – قدّس الله روحه – يحبُّ فِي القرآنِ ويبغضُ فيهِ، ويحبُّ أشخاصًا لَا يَعْرِفُهُمْ سوَى أنَّهُمْ يواظبونَ عَلَى قراءةِ القرآنِ، إذْ قالَ فِي مرَّةٍ مِنَ المرّاتِ لشخصٍ لَا يعرِفُهُ كانَ يراهُ فِي روضةِ الإمامِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلامُ) عندَ الزيارةِ: لأنَّكَ تقرأُ القرآنَ فأنَا أحِبُّكَ، وعرضَ عليهِ أنْ يَعْمَلَ فِي مَكْتَبِهِ.

الزواجُ فِي شهرِ رمضانَ: كانَ الإمامُ حريصًا ومواظبًا علَى طلبِ العلمِ بشكلٍ يُضْرَبُ بِهِ المثلُ، ومنظَّمًا فِي برامِجِهِ الدراسيّة إلى حدٍّ كبيرٍ، إلّا أنَّ الحوزاتِ العلميّةَ فِي العالمِ الشيعيِّ دَرَجَتْ عَلى تعطيلِ الدروسِ نهائيًّا فِي الشهرِ الفضيلِ، وكانَ الإمامُ يستثمرُ الفرصَةَ ليتفرَّغَ نهائيًّا للطاعةِ والعبادةِ. وكمَا تعلمونَ فإنَّ الإمامَ الخمينيَّ تأخَّرَ فِي الزواجِ لكثرةِ انشغالِهِ بطلبِ العلمِ وتحصيلِ المعرفةِ، وتزوّجَ فِي سنِّ الثامنةِ والعشرينَ مِنْ عُمُرِهِ. وقدْ وَجَدَ الإمامُ أنَّ شهرَ رمضانَ هُوَ الفرصةُ المؤاتيةُ ليقترنَ بشريكةِ حياتِهِ؛ لذَا عَقَدَ قرانَهُ فِي هذَا الشهرِ.

الصلاةُ قبلَ الإفطارِ: لَمْ يَكُنِ الإمامُ – رَحِمَهُ اللهُ – يتناولُ إفطارَهُ فِي شهرِ رمضانَ فِي النجفِ الأشرفِ إلّا بعدَ أنْ يُقِيمَ صلاتَيِ المغربِ والعشاءِ مَعَ نوافِلِهِمَا، رغمَ أنَّ الجوَّ كانَ حارًّا للغايةِ فِي النجفِ، حيثُ كانتْ دَرَجَةُ الحرارةِ تقاربُ الخمسينَ درجةً، ورَغْمَ أنَّ الصومَ كانَ يستمرُّ فيهَا 18 ساعةً، وهوَ أمرٌ شاقٌّ عَلَى مَنْ كانَ فِي عُمُرِ الإمامِ، ولكنَّهُ ورَغْمَ ضعفِهِ الجسديِّ الناشئِ مِنْ هذَا الصومِ الطويلِ لَمْ يَكُنْ يُفْطِرُ قبلَ الصلاةِ قطُّ.

وكانَ للإمامِ – رَحِمَهُ اللهُ – برامجُ خاصّةٌ للعملِ فِي الشهورِ المتميّزةِ مثلِ شهرِ رمضانَ، فمثلًا كانَ يمتنعُ فِي هذَا الشهرِ عَنْ قراءةِ الشِّعْرِ ونَظْمِهِ والاستماعِ لَهُ، كانَ يُوجِدُ فِي طريقةِ حياتِهِ تغييرًا شاملًا بما يتناسبُ مَعَ خصوصيَّاتِ شهرِ رمضانَ.

كانَ برنامَجُهُ العباديُّ إحياءَ ليالِي شهرِ رمضانَ المباركِ إلَى الصباحِ بالصلاةِ والدعاءِ، وكانَ عمقُ تضرُّعِهِ للهِ تعالَى ومناجاتِهِ يتجسّدُ فِي الأسحارِ.

وأخيرًا وليس آخِرًا أختمُ حديثِي بكلماتٍ للإمامِ الخمينيّ رضوانُ اللهِ تعالى عليهِ:

اللهمَّ نحنُ عبيدُكَ الضعفاءُ الفقراءُ، ونحنُ لَا شيءَ وأنتَ كلُّ شيءٍ، إنْ أذنَبْنَا فَلِجَهْلِنَا فَاعْفُ عنَّا... اللّهمَّ أَدْخِلْنَا هذَا الشهرَ وكأنَّكَ أدخلتَنَا فيهِ وأنتَ راضٍ عنَّا... اللّهمَّ هَبْ لنَا استحقاقَ الدخولِ لهذِهِ الضيافةِ الّتي دَعَوْتَنَا إليهَا.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والسلامُ عليكمُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ

ارسال التعليق

You are replying to: .