۸ اردیبهشت ۱۴۰۳ |۱۸ شوال ۱۴۴۵ | Apr 27, 2024
السيد علي فضل الله

وكالة الحوزة: ألقى السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، وقد تحدث حول الصراع الدائر بين الحق والباطل، مشيراً إلى الآيات والروايات الواردة في هذا المجال.

وكالة أنباء الحوزة: ألقى السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبة الأولى:


{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.

إنّ صراع الحقّ مع الباطل سنّة إلهيّة، حكمت وتحكم مسيرة الإنسانيّة، ولا يخلو منها مجتمع، مهما كانت درجة تطوّره. ففي كلّ تجمّع إنسانيّ تنشأ علاقات تنافسيّة، أساسها التّدافع والتّسابق على الموارد والخيرات والمال والقوّة والمنصب والجاه والنفوذ.

وهذه المقاصد لا تتحقّق عفويّاً، إنما تأتي في سياق معارك، تأخذ أشكالاً وأنواعاً متعددة: ناعمة أو دامية، شريفة أو خبيثة، وذات مظاهر فكرية أو عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنيّة.

إنّ أبرز مشكلة تعانيها الحياة الإنسانيّة، هي مشكلة تحقيق التّوازن بين مصلحة الفرد أو الأنا، ومصلحة نحن أو المجتمع، وتبدأ المشكلة عندما تتسلَّط روح الأنانيّة على الإنسان، فتصبح مصلحته ومنفعته هما المعيار لأيِّ سلوكٍ أو موقف، أي أنَّه يصبح على استعدادٍ لأن يغلِّب الظّلم على العدل، أو الكره والتعصّب على الحبّ والتّعاون والتّسامح، ويغلِّب الباطل على الحقّ. ويبدأ الصِّراع عندما يستشري الفساد، ويتحكَّم الظلم والاستكبار بحياة مجتمعٍ ما ويعمّ الخراب.

هنا يكون جوهر الصّراع عبارةً عن تنافس إراداتٍ باتت على طرفي نقيض: إرادات تسعى لتمكين كلِّ ما يساهم في إعمار الحياة، والخير، في مواجهة إراداتٍ همّها مصالحها ومنافعها، مهما كلَّفها ذلك من إفسادٍ في الأرض أو تخريب.

والقرآن الكريم تحدَّث عن العديد من صور هذا الصِّرِاع ومنطقه ومنطلقاته، وسنعرضها في ثلاث نقاط أساسيَّة:

الصِّراع وسنَّة الابتلاء

النّقطة الأولى: تلازم عمليَّة الصّراع بين الحقّ والباطل مع سنّة الابتلاء، فالحياة الدّنيا في نظر أهل الحقّ دار ابتلاء، وممرّ إلى الحياة الأخرى. أمّا في نظر أهل الباطل، فإنّ الدّنيا هي المال والمنصب والجاه، والقصور، والشّهرة، والاسم، والحرص على المغانم... {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.

إنّ من ثوابت تاريخ الصّراع بين الحقّ والباطل، أنَّ من يقف في وجه سلاطين الاستبداد والفساد، عليه أن يخشى على منصبه وماله، وأن يخاف على حياته.

فمن ثوابت سنَّة الابتلاء هذه، سنَّة الصِّراع بين الحقِّ والباطل، إنَّ نماذج القاضي شريح موجودون في كلّ مراحل التَّاريخ، وكلّهم على استعدادٍ دائمٍ لأن يُدلوا بشهاداتهم كما يشاء الأمير، ومتى شاء الحاكم. و"الشّاطر" منهم من يسارع قبل الجميع إلى القول: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوَّل من رميت.

أمَّا نماذج الحرّ الرّياحي، فهم صفوة الصّفوة، الّذين هم في مواقع الابتلاء (في المعركة).. التقطوا أنفاسهم، أعادوا تصويب مسارهم، وانتقلوا من ضفّة الباطل إلى ضفّة الحقّ، رغم الأثمان الباهظة على المستوى الدّنيويّ، والرّابحة على المستوى الأخرويّ.

معيارٌ مرفوضٌ!

والنّقطة الثّانية هي التَّمييز بين الحقِّ والباطل عند اشتداد الصِّراع، وكلّنا يعلم أنَّه في عهود التخلّف والتبعيَّة، كان الحقّ هو ما يقوله الملك، وزعيم القبيلة أو العشيرة، أو أيّ مستبدٍّ عات، أو أيّ جهة ذات حسب ونسب أو تملك الثَّراء والجاه. حينها، كان الحقّ يعني كلّ ما يُلائم ويتوافق مع مصالح هؤلاء، وأيّ شيءٍ يتعارض مع هذه المصالح فهو باطل.

وجاء الإسلام ليرفض هذا المعيار في تمييز الحقِّ من الباطل، لأنَّ الأشخاص يتبدّلون ويتغيّرون ويتلوّنون وينقلبون بين يومٍ وليلة، أمَّا المقياس فهو الحقّ ذاته، وليست العناوين ولا المواقع والأشخاص.

بعد معركة الجمل، سأل أحدهم الإمام عليّاً(ع) عمَّن من الطرفين على الحقّ، فقال عليّ(ع): "يا حارث، إنّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحِرْت. إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه".

نعم، صدق أمير المؤمنين في هذا الدَّرس التربويّ والسياسيّ والاجتماعيّ بامتياز، فالحقّ أرفع من الأسماء والألقاب والمراتب والمناصب.. إذ ينصحنا إمام الحقّ عليّ(ع) ويقول: "إنَّ الحقّ لا يُعرَف بالرّجال، اِعرف الحقَّ تعرف أهله".

أمَّا تشخيص الموقف الحقّ، والسّلوك الحقّ، والرّأي الحقّ، وتمييزه من الرّأي الباطل أو الموقف الباطل، فهو يتطلَّب إعمال عقلٍ وفق المبدأ القرآنيّ: {فَتَبَيَّنُوا}. ووفق قاعدة تفكَّروا وتبصَّروا ولا تؤجِّروا عقولكم أو تعطّلوها.. واسألوا بقلبٍ سليمٍ خالٍ من التعصّب، وعقلٍ مفتوحٍ بعيدٍ عن التحجّر.

ويوصينا عليّ(ع): "أمّا إنّه ليس بين الحقّ والباطل إلا أربع أصابع؛ الباطل أن تقول سمعت، والحقّ أن تقول رأيت".

من هنا تنبع مأساتنا اليوم في تقديم الباطل على طبق من الإعلام البرّاق، باعتباره الحقّ الّذي لا يخالطه أيّ زيف. وهي المعركة الأخطر، حيث يختلط السّمّ بالعسل، لأنَّ المفسدين لا يمكن أن يقدّموا لك سمّاً بشكلٍ مباشر، لأنّك سترفضه، إنما يفعلون ذلك بشكلٍ مواربٍ ومخلوطٍ بقليلٍ من العسل، من أجل تضييع قدرتك على التَّمييز. وفي هذا المجال، ورد عن عليّ(ع): "كم من ضلالةٍ زخرفت بآيةٍ من كتاب الله كما يزخرَف الدّرهم النّحاس بالفضَّة المموَّهة".

سلاح الباطل

 تبقى النّقطة الثّالثة هي في نوعيَّة الأسلحة الّتي يستعملها الباطل.

يحدِّثنا القرآن الكريم عن أسلحةٍ متنوّعةٍ يلجأ إليها الباطل ليواجه الحقّ، وراقبوا كيف هي عمليَّة التّدرّج:

أ‌- أوَّل سلاح هو تشويه صورة قادة الحقّ والتَّشكيك فيهم: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.[الأعراف: 60]. {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.[الأعراف: 66]...

ب- السّلاح الثّاني للباطل هو الإعراض عن سماع الحقّ وصدّ أيّ كان عن محاولة سماعها: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[فصّلت: 26].

وفي تجربة النبيّ نوح مثال على الصّدّ: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح: 7]...

ج- البعض قد يحاول أن يبدو أشجع، فيلجأ إلى سلاح الجدال والتّنفنّن بالكلام ليدحض الحقّ: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا}[الكهف: 56]. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: 121]...

ه- ومن الأسلحة، تشويه رسالة الحقِّ نفسها، بعيداً عمَّن أتى بها، بتحريف مضمونها، وبتشويه أهدافها، والتَّخويف من نتائجها، وترويج إشاعات مضلَّلة حولها: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً{[الفرقان: 5].

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}[طه: 63]...

و- بعدها  يأتي التَّحريض: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ...} [الأعراف: 127].

ز- وصولاً إلى الردّ بالعنف والقتل، وفي حال فرعون قال: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف: 127]. {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.[يس: 18]. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: 30].

معركة مستمرّة

أيّها الأحبَّة: ستبقى معركة الحقّ والباطل ما دام الإنسان قائماً على هذه الأرض وبيده الاختيار،   والأسلحة باقية هي هي، وما علينا إلا الوعي والعلم والتنبّه والتبيّن والتبصّر.

والأهمّ من ذلك كلّه، أن تكون بوصلة الحقّ هي قبلتنا، لا بوصلة الأشخاص، ولا أصحاب المواقع والمال، وهذا يحتاج منّا إلى تربية نفسٍ وتزكيةٍ وجهاد، كي تعي هذه النَّفس وتتغلّب على أسلحة الباطل، ولا تقع في فخّ العصبيّة والفعل الغريزيّ.

اليوم، أيّها الاحبَّة، نعم، الأسلحة هي هي.. في أيّ موقع يحصل فيه صراع، ولو كان على مواقع التَّواصل، حيث التَّصارع هو حول فكرةٍ أو موقفٍ أو رأيٍ، فتمتلئ الصّفحات بالتّشويه والاستهزاء والسّباب وتسخيف الأفكار والتّطاول والتّصنيف، ثم الاتهام والتَّخوين والتَّشهير والمقاطعة، وبعدها التَّحريض الفعليّ، وصولاً إلى الإيذاء وتسجيل التَّقارير، وحتى الصّدّ والإلغاء، ولو كان بإمكان بعضهم أن يفعلوا ذلك جسديّاً لما قصّروا .

هذه صورة من واقعنا اليوميّ الفرديّ الّذي تمتلئ به منصّات الحوار، ومن الجميع دون استثناء، أي الطّرفين المعلِّق والمعلَّق عليه كحدّ سواء، وهو نموذج مؤسف ومؤلم، ونموذج مصغَّر لما نعانيه أيضاً في القضايا الكبرى الوجوديّة والعقيديّة والتحرريّة، حيث نشهد في أرض الواقع سياسات التّشهير والتّشكيك في فئات من المجتمع، وفي طوائف ودول وأحزاب، وفبركة دعايات وأخبار وصور وملفّات، وسخريةً وتوهيناً، ومحاولة إسقاط ومحاربة وأذيّة في الأرواح والأموال والأرزاق.

إنّها الأساليب القديمة تتجدّد، وستبقى تستشرس لتكسب. نعم، قد تكسب جولةً، ولكن لن تكسب  المعركة طالما هناك نفوس صافية وأبيّة لا تبيع نفسها لهوى أو مال أو جاه، ولا تسقط أمام خوف أو تهويل أو ترهيب، ولا تقبل أن تلوّث فطرتها الّتي فطرها خالقها وبرأها عليها. وقالها أمير المؤمنين(ع): "من أبدى صفحته للحقّ هلك"، و"من صارع الحقّ صُرِع".

{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء: 80].

ارسال التعليق

You are replying to: .