وكالة أنباء الحوزة - قصيدة البُردة في مدح خير البرية، أحد أشهر القصائد في مدح النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، كتبها محمد بن سعيد البوصيري في القرن السابع الهجري الموافق القرن الحادي عشر الميلادي، ولا تزال تشكل مصدر إلهام للشعراء والأدباء حتى يومنا هذا.
وفيما يلي نص القصيدة:
أمن تذكر جيران بذي سلم ** مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
 أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ** وأومض البرق في الظلماء من إضم
 فما لعينيك إن قلت اكففا همتا ** وما لقلبك إن قلت استفق يهم
 أيحسب الصب أن الحب منكتم ** ما بين منسجم منه ومضطرم
 لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل ** ولا أرقت لذكر البان والعلم
 فكيف تنكر حبا بعد ما شهدت ** به عليك عدول الدمع والسقم
 وأثبت الوجد خطي عبرة وضنى ** مثل البهار على خديك والعنم
 نعم سرى طيف من أهوى فأرقني ** والحب يعترض اللذات بالألم
 يا لائمي في الهوى العذري معذرة ** مني إليك ولو أنصفت لم تلم
 عدتك حالي لا سري بمستتر ** عن الوشاة ولا دائي بمنحسم
 محضتني النصح لكن لست أسمعه ** إن المحب عن العذال في صمم
 إني إتهمت نصيح الشيب في عذل ** والشيب أبعد في نصح عن التهم
 فإن أمارتي بالسوء ما اعْتَظَتْ ** من جهلها بنذير الشيب والهرم
 ولا عدت من الفعل الجميل قرى ** ضيف ألم برأسي غير محتشم
 لو كنت أعلم أني ما أوقره ** كتمت سرا بدا لي منه بالكتم
 من لي برد جماح من غوايتها ** كما يرد جماح الخيل باللجم
 ولا ترم بالمعاصي كسر شهوتها ** إن الطعام يقوي شهوة النهم
 والنفس كالطفل إن تهمله شب على ** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
 فاصرف هواها وحاذر أن توليه ** إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
 وارعها وهي في الأعمال سائمة ** وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
 كم حسنت لذة للمرء قاتلة ** من حيث لم يدر أن السم في الدسم
 واخش الدسايس من جوع ومن شبع ** فرب مخمصة شر من التخم
 واستفرغ الدمع من عين قد امتلات ** من المحارم والزم حمية الندم
 وخالف النفس والشيطان واعصهما ** وإن هما محضاك النصح فاتهم
 ولا تطع منهما خصما ولا حكما ** فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
 استغفر الله من قول بلا عمل ** لقد نسبت به نسلا لذي عقم
 أمرتك الخير لكن ما أمرت به ** وما استقمت فما قولي لك استقم
 ولا تزودت قبل الموت نافلة ** ولم أصل غير فرض ولم أصم
 ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى ** أن اشتكت قدماه الضر من ورم
 وشد من سغب أحشاءه وطوى ** تحت الحجارة كشحا مترف الأدم
 وراودته الجبال الشم من ذهب ** عن نفسه فأراها أيما شمم
 وأكدت زهده فيها ضرورته ** إن الضرورة لا تعدو على العصم
 وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ** لولاه لم تخرج الدنيا من عدم
 محمد سيد الكونين والثقلين ** والفريقين من عرب ومن عجم
 نبينا الآمر الناهي فلا أحد ** أبر في قول لا منه ولا نعم
 هو الحبيب الذي ترجى شفاعته ** لكل هول من الأهوال مقتحم
 دعا إلى الله فالمستمسكون به ** مستمسكون بحبل غير منفصم
 فاق النبيين في خلق وفي خلق ** ولم يدانوه في علم ولا كرم
 وكلهم من رسول الله ملتمس ** غرفا من البحر أو رشفا من الديم
 وواقفون لديه عند حدهم ** من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
 فهو الذي تم معناه وصورته ** ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم
 منزه عن شريك في محاسنه ** فجوهر الحسن فيه غير منقسم
 دع ما ادعته النصارى في نبيهم ** واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
 وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ** وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
 فإن فضل رسول الله ليس له ** حد فيعرب عنه ناطق بفم
 لو ناسبت قدره آياته عظما ** أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
 لم يمتحنا بما تعمل العقول به ** حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
 أعيا الورى فهم معانيه فليس يرى ** في القرب والبعد فيه غير منفحم
 كالشمس تظهر للعينين من بعد ** صغيرة وتكل الطرف من أمم
 وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ** قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
 فمبلغ العلم فيه أنه بشر ** وأنه خير خلق الله كلهم
 وكل آي أتى الرسل الكرام بها ** فإنما اتصلت من نوره بهم
 فإنه شمس فضل هم كواكبها ** يظهرن أنوارها للناس في الظلم
 أكرم بخلق نبي زانه خلق ** بالحسن مشتمل بالبشر متسموا
 كالزهر في ترف والبدر في شرف ** والبحر في كرم والدهر في همم
 كأنه وهو فرد من جلالته ** في عسكر حين تلقاه وفي حشم
 كأنما اللؤلؤ المكنون في صدف ** من معدني منطق منه ومبتسم
 لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ** طوبى لمنتشق منه وملتثم
 أبان مولده عن طيب عنصره ** يا طيب مبتدا منه ومختتم
 يوم تفرس فيه الفرس أنهم ** قد أنذروا بحلول البؤس والنقم
 وبات إيوان كسرى وهو منصدع ** كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم
 والنار خامدة الأنفاس من أسف ** عليه والنهر ساهي العين من سدم
 وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ** ورد واردها بالغيظ حين ظمي
 كأن بالنار ما بالماء من بلل ** حزنا وبالماء ما بالنار من ضرم
 والجن تهتف والأنوار ساطعة ** والحق يظهر من معنى ومن كلم
 عموا وصموا فإعلان البشائر لم ** تسمع وبارقة الإنذار لم تشم
 من بعد ما أخبر الأقوام كاهنهم ** بأن دينهم المعوج لم يقم
 وبعد ما عاينوا في الأفق من شهُب ** منقضة وفق ما في الأرض من صنم
 حتى غدا عن طريق الوحي منهزم ** من الشياطين يقفو إثر منهزم
 كأنهم هرَبًا أبطال أبرهة ** أو عسكر بالحصى من راحتيه رمي
 نبذا به بعد تسبيح ببطنهما ** نبذ المسبح من أحشاء ملتقم
 جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ** تمشي إليه على ساق بلا قدم
 كأنما سطرت سطرا لما كتبت ** فروعها من بديع الخط في اللقم
 مثل الغمامة أنى سار سائرة ** تقيه حر وَطِيسٍ للهجير حمي
 أقسمت بالقمر المنشق إن له ** من قلبه نسبة مبرورة القسم
 وما حوى الغار من خير ومن كرم ** وكل طرف من الكفار عنه عمي
 فالصدق في الغار والصديق لم يرما ** وهم يقولون ما بالغار من أرم
 ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ** خير البرية لم تنسج ولم تحم
 وقاية الله أغنت عن مضاعفة ** من الدروع وعن عال من الأطم
 ما سامني الدهر ضيما واستجرت به ** إلا ونلت الندى من خير مستلم
 لا تنكر الوحي من رؤياه إن له ** قلبا إذا نامت العينان لم ينم
 وذاك حين بلوغ من نبوته ** فليس ينكر فيه حال محتلم
 تبارك الله ما وحي بمكتسب ** ولا نبي على غيب بمتهم
 كم أبرأت وصبا باللمس راحته ** وأطلقت أربا من ربقة اللمم
 وأحييت السنة الشهباء دعوته ** حتى حكت غرة في الأعصر الدهم
 بعارض جاد أو خلت البطاح بها ** سيب من اليم أو سيل من العرم
 دعني ووصفي آيات له ظهرت ** ظهور نار القرى ليلا على علم
 فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ** وليس ينقص قدرا غير منتظم
 فما تطاول آمال المديح إلى ** ما فيه من كرم الأخلاق والشيم
 آيات حق من الرحمن محدثة ** قديمة صفة الموصوف بالقِدَم
 لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ** عن المعاد وعن عاد وعن إرم
 دامت لدينا ففاقت كل معجزة ** من النبيين إذ جاءت ولم تدم
 محكمات فما تبقين من شبه ** لذي شقاق وما تبغين من حكم
 ما حوربت قط إلا عاد من حرب ** أعدى الأعادي إليها ملقى السلم
 ردت بلاغتها دعوى معارضها ** رد الغيور يد الجاني عن الحرم
 لها معان كموج البحر في مدد ** وفوق جوهَرِها في الحسن والقيم
 فما تعد ولا تحصى عجائبها ** ولا تسام على الإكثار بالسأم
 قرت بها عين قارئها فقلت له ** لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم
 إن تتلها خيفة من حر نار لظى ** أطفأت نار لظى من وردها الشبم
 كأنها الحوض تبيض الوجوه به ** من العصاة وقد جاءوه كالحمم
 و كالصراط و كالميزان معدة ** فالقِسْط من غيرها في الناس لم يقم
 لا تعجبن لحسود راح ينكرها ** تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم
 قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ** وينكر الفم طعم الماء من سقم
 يا خير من يمم العافون ساحته ** سعيا وفوق متون الأينق الرسم
 ومن هو الآية الكبرى لمعتبر ** ومن هو النعمة العظمى لمغتنم
 سرت من حرم ليلا إلى حرم ** كما سرى البدر في داج من الظلم
 وبت ترقى إلى أن نلت منزلة ** من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم
 وقدمتك جميع الأنبياء بها ** والرُسْلِ تقديم مخدوم على خدم
 وأنت تخترق السبع الطباق بهم ** في موكب كنت فيه صاحب العلم
 حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق ** من الدنو ولا مرقى لمستنم
 خفضت كل مقام بالإضافة إذ ** نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
 كيما تفوز بوصل أي مستتر ** عن العيون وسر أي مكتتم
 فحزت كل فخار غير مشترك ** وجزت كل مقام غير مزحم
 وجل مقدار ما وليت من رتب ** وعز إدراك ما أوليت من نعم
 بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا ** من العناية ركنا غير منهدم
 لما دعا الله داعينا لطاعته ** بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
 راعت قلوب العدا أنباء بعثته ** كنبأة أجفلت غفلا من الغنم
 ما زال يلقاهم في كل معترك ** حتى حكوا بالقنا لحما على وضم
 دَوُّوا الفرار فكادوا يغبطون به ** أشلاء شالت مع العقبان والرخم
 تمضي الليالي ولا يدرون عِدَّتَها ** ما لم تكن من ليالي الأشهر الحرم
 كأنما الدين ضيف حل ساحتهم ** بكل قرم إلى لحم العدى قرم
 يجر بحر خميس فوق سابحة ** يرمي بموج من الأبطال ملتطم
 من كل منتدب لله محتسب ** يسطو بمستأصل للكفر مصطلم
 حتى غدت ملة الإسلام وهي بهم ** من بعد غربتها موصولة الرحم
 مكفولة أبدا منهم بخير أب ** وخير بعل فلم تيتم ولم تئم
 هم الجبال فسل عنهم مصادمهم ** ماذا رأى منهم في كل مصطدم
 وسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا ** فصول حتف لهم أدهى من الوبم
 المصدرين البيض حمرا بعد ما وردت ** من العدى كل مسوَّد من اللمم
 والكاتبين بَسُمْر الخط ما تركت ** أقلامهم حرف جسم غير منعجم
 شاكي السلاح لهم سيما تميزهم ** والورد يمتاز بالسيما عن السلم
 تهدى إليك رياح النصر نشرهم ** فتحسب الزهر في الأكمام كل كمي
 كأنهم في ظهور الخيل نبت رُبًا ** من شدة الحزم لا من شدة الحزم
 طارت قلوب العدا من بأسهم فرقا ** فما يفرق بين البهم والبهم
 ومن تكن برسول الله نصرته ** إن تلقه الأسد في آجامها تجم
 ولن ترى من ولي غير منتصر ** به ولا من عدو غير منصرم
 أحل أمته في حرز ملته ** كالليث حل مع الأشبال في أجم
 كم جادلت كلمات الله من جدل ** فيه وكم خصم البرهان من خصم
 كفاك بالعلم في الأمي معجزة ** في الجاهلية والتأديب في اليتـــم
 خدمته بمديح أستقيل به ** ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم
 إذ قلّداني ما تخشى عواقبه ** كأنني بهما هدي من النعم
 أطعت غي الصبا في الحالتين وما ** حصلت إلا على الآثام والندم
 فيا خسارة نفس في تجارتها ** لم تشتر الدين بالدنيا ولم تسم
 ومن يبع آجلا منه بعاجله ** يبن له الغبن في بيع وفي سلم
 إن آت ذنبا فما عهدي بمنتقض ** من النبي ولا حبلي بمنصرم
 فإن لي ذمة منه بتسميتي ** محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
 إن لم يكن في معادي آخذا بيدي ** فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
 حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه ** أو يرجع الجار منه غير محترم
 ومنذ ألزمت أفكاري مدائحه ** وجدته لخلاصي خير ملتزم
 ولن يفوت الغنى منه يدا تربت ** إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم
 ولم أرد زهرة الدنيا التي اقتطفت ** يدا زهير بما أثنى على هرم
 يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم
 ولن يضيق رسول الله جاهك بي ** إذا الكريم تحلى باسم منتقم
 فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
 يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت ** إن الكبائر في الغفران كاللمم
 لعل رحمة ربي حين يقسمها ** تأتي على حسب العصيان في القسم
 يا رب واجعل رجائي غير منعكس ** لديك واجعل حسابي غير منخرم
 والطف بعبدك في الدارين إن له ** صبرا متى تدعه الأهوال ينهزم
 وأذن لسحب صلاة منك دائمة ** على النبي بمنهل ومنسجم
 ما رنحت عذبات البان ريح صبا ** وأطرب العيس حادي العيس بالنغم
المأخذ: البردة شرحا وإعرابا وبلاغة لطلاب المعاهد والجامعات، صفحة 222-239
 
             
                




تعليقك