وكالة أنباء الحوزة - في استمرار سلسلة دروسه الأخلاقية في المسجد الأعظم [جامع آية الله البروجردي] في مدينة قم، التي تتعلق بشرح كلمات أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، قال سماحة آية الله جوادي الأملي أمس الأربعاء 13 نوفمبر 2024: "إن من لا يفكر في معرفة الله يُوقعه في العذاب وهو نسيان نفسه فهو يفكر في كل شيء إلا نفسه" مشددا على "أن الإنسان لا يفكر حينئذ في مبدئه ومآله".
ونص كلمته كما يلي:
جاء الأنبياء بعدة أشياء؛ أولها أن أساس العلم هو العلم الحضوري وليس حصولياً، والعلم الحضوري يبدأ من معرفة النفس. إن الإنسان لا يعرف نفسه بالمفهوم بل يعرفها بالعلم الحضوري ويكتشفها. عندما يعرف الإنسان نفسه، فإنه يجد الحقيقة والوجودَ الخارجي وليس الصورة الذهنية. أحياناً يتصور الإنسان المسجد أو الشارع على سبيل المثال ويستحضر صورتيهما ومفهوميهما في ذهنه، وهذا هو العلم الحصولي، ولكن في بعض الأحيان يشاهد الأشياء بنفسه، وهذا هو العلم الحضوري.
وفي الآية الكريمة: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، يرى العلامة الطباطبائي أن هذه الآية تعارض الرواية النورانية التي تقول: "من عرف نفسه عرف ربه". هذه الرواية تبين أن كل من يعرف نفسه بشكل صحيح يعرف الله أيضاً، ولكن الآية تشير إلى أنه إذا لم يعرف أحدٌ اللهَ فلن يعرف نفسه. من لا يفكر في معرفة الله يُوقعه في هذا العذاب؛ فهو يفكر في كل شيء إلا نفسه؛ يفكر في البيت والسيارة والطعام وما إلى ذلك لكنه لا يفكر في "ما هو ومن أين جاء وإلى أين يذهب وماذا سيفعل عندما يدخل البرزخ". إن عقوبة من لا يعرف الله هي نسيان نفسه. ووفقا للرواية إذا عرف أحدٌ ربه سيعرف نفسه، وإذا لم يعرف نفسه فلن يعرف ربه أيضاً. وقد ذكر العلامة أن تلك الآية تعارض هذه الرواية.
قد تم تعريف ثلاثة أنواع من الناس في وجهة نظر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في بياناته النورانية، حيث قال: "اَلنَّاسُ ثَلاَثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ اَلْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ". أما عن القسم الأول فقد ذكر أنه عالُمنا الرباني وعلينا أن نتبعه كما بيّن أنه شديدُ الربط بالرب وسيجعلنا ربانيين، وجميع الأئمة الأربعة عشر كذلك. أما القسم الثاني فهم تلاميذه الذين يتعلمون على سبيل النجاة. وأما القسم الثالث فهم الذين إما مشغولون بالأكل والنوم أو مشغولون بالرواتب وزيادتها ونقصانها أو يخيّلون أنهم أفضل أو يكونون علماء ولكن غير عاقلين ويهتزون مع كل ريح؛ فلا يمكن الوثوق بأي من هؤلاء.
هناك بعض الأشخاص الذين هم أهل درس وبحث وفهم، وقد قيل عنهم: "العلماء باقون ما بقي الدهر". لذا عندما نقول في الدروس: "قال المرحوم الآخوند أو صاحب الجواهر أو العلامة أو غيرهم" فهذا يعني أنهم ما زالوا أحياء. أتذكر أني يوم دخلت قم كانت هناك جملتان مشهورتان بين الطلاب؛ وهما "قال الشيخ عبد الكريم" و"قال السيد علي اليثربي" وهكذا كانت العلوم العظيمة للعلماء الكبار تدور بين الطلاب في كل عصر.
لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) يسأل أصحابه عن أنهم هل حفظوا الخطبة التي ألقاها قبل أيام، بل غالباً ما كان يسأل: "ماذا رأيتم؟". لقد أخبرنا الأنبياء والأولياء أن العلم الذي يُبقي العالِم حياً ليس المفهوم الحصولي بل هو العلم الحضوري؛ إن بناء العقلاء هو ما يعلمه الأنبياء الاوائل. وقد ذكرنا سابقاً أنه ليس لدينا شيء يُعتبر بناءَ العقلاء؛ بالطبع يُقال دائماً في الدروس إن هذا الأصل هو بناء العقلاء وإمضاء الشارع كما يُذكر أن "أوفوا بالعقود" هو بناء العقلاء، وكلامنا المتداول هو أن الأمر الفلاني عقلائي، وما جاء به الشارع ليس تأسيساً بل إمضاءً لأمور العقلاء. ولكن عندما نتقدم أكثر نرى أنه لم يكن هناك عقلاء حتى يأتي الشارع ليؤيد عملهم.
كان الأنبياء الأوائل يعرضون على الله كيف يديرون الناس بالقوانين و يرشدونهم في المعاملات والعبادات والأخلاق؛ فأرسل الله الأوامر وجاء الوحي ونقله الأنبياء وعمل الناس جيلا بعد جيل. لكن اليوم نعتقد أن الناس قد وضعوا هذه الأمور بعقولهم. ضعفُ الإنسان بدون الله في عصر آدم (عليه السلام) معلوم، فعندما قتل قابيل هابيل لم يكن يعرف ماذا يفعل بجثته حتى جاء غراب ليعلمه ذلك. لذا فإن البشر الأوائل الذين لم يعرفوا شيئاً لم يفهموا "أوفوا بالعقود" كما لم يدروا الأحكام والقوانين حتى نقول إن البشر كانوا يعرفون هذه الأمور وأن الأنبياء أيدوها.
على أي حال، ما هو رسميّ هو العلم الحصولي والقوانين العلمية والتجريبية، لكن ما يجعل الإنسان عالماً ربانياً أو تلميذا له هو ما يناله من علم شهودي وحضوري. السؤال عن "ما رأيتَه ليلة أمس" يأتي ليحث الإنسان على النوم بمعدة غير مليئة وأن يتهجد ويصلي صلاة الليل. وليُعلم أن الإنسان يرى أثر ما فَعَله خلال النهار في فقدان التوفيق في عبادة الليل.
تحدث أفضل عالم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وهو الإمام علي (عليه السلام) عن أنه لا يوجد أحد مثله في العالَم كما عرّفه النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه نفسُه مستشهدا بقوله تعالى "أنفسنا" وكل ما يحتاجه الإنسان منحه الله للإمام علي (عليه السلام) وهو الآن أيضاً حي ونحن ندرس نهج البلاغة له كل يوم. وكان إصرار الأئمة (عليهم السلام) على إحالة مطالبهم إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام). قال : "المال تنقصه النفقة والعلم يزكو ويزداد على الإنفاق" و يبين القرآن الكريم أن المال إذا استُهلك لنفس الإنسان فقط فهو تكاثر، لكن إذا صَرَف لنفسه وللآخرين في سبيل الله فهو عطاء علمي. لذا إذا تحدث الإمام علي (عليه السلام) في تلك الكلمة عن أن المال يزول فهو يتعلق بالمال الذي لا يُستهلك علمياً وفي سبيل الله.
إذا كان المال بمثابة "كوثر" فإنه سيزداد عدة مرات، لكن إذا كان لـ "التكاثر" و"هوى النفس" فإنه سيزول؛ عندما قال الإمام علي (عليه السلام): "المال تنقصه النفقة" فذلك يشير إلى هذا النقاش. لكن العلم إذا بُذل سيزداد. عندما يتصدق الإنسان بماله يحصل على ثواب مضاعف، لذا يكون عملاً علمياً. إذا كان لديه درس وبحث فإن ذلك العلم سيصبح ملكة له وسيزداد علمه عدة مرات وإذا أقرض مالاً سيصبح ماله 18 ضعفاً وإذا بذله سيكون عشرة أضعاف. وقال الله تعالى في سورة البقرة : "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".
ورُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "ألف درهم أقرضها مرتين أحب إلى من أن أتصدق بها مرة" لأن ذلك يحفظ ماء وجه من استقرض ويذهب للبحث عن العمل.
انتهى.
لقراءة النص باللغة الفارسية اضغط هنا.
المصدر: وكالة أنباء الحوزة