وكالة أنباء الحوزة - ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي نصّ الحوار مع المفكر والمناضل الفلسطيني الأستاذ منير شفيق حول آخر المستجدات على الساحة الفلسطينيّة وما قاله الإمام الخامنئي بأنّ فلسطين أوسلو تحوّلت إلى فلسطين الأسود، والظروف التي ساعدت في تسليح الضفة الغربيّة وتحولها إلى نقطة مهمّة في الصراع بين الفلسطينيّين والكيان الصهيوني وترسّخ الاعتقاد داخل فلسطين بإمكانيّة تحقيق انتصار حقيقي على الكيان الصهيوني ومن خلفه من مستكبري العالم.
جناب الأستاذ الفاضل منير شفيق تحية لجنابك الكريم من موقع الإمام الخامنئي وشكراً جزيلاً لكم على تلبيتكم لهذه الدعوة لإجراء هذا الحوار حول قضية فلسطين والمستجدات على الساحة الفلسطينية. القرار الأخير الذي اتخذه الكيان الغاصب بدعوة المستوطنين للابتعاد عن المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك قرار اتخذ بعد تذوق طعم المعادلة الجديدة المسجد الأقصى، يعني قيام فلسطيني لا محدود وتحرك الجبهة الشمالية من لبنان إلى سوريا.
الإمام الخامنئي وفي لقائه الرمضاني مع المسؤولين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية قال: فلسطين أوسلو تلك غدت عرين الأسود وفلسطين الأسود. كيف تقرأ أستاذ منير المسار التاريخي من أوسلو إلى فلسطين عرين الأسود وفق تعبير وتوصيف الإمام الخامنئي، هل هذا التحول هو تحول ثوري محدود أم جذري اعتقادي ويوصّف واقع روح الفلسطيني؟
بسم الله الرحمن الرحيم، أولاً شكر لكم على مشاركتي بهذا الحفل أو بهذا المكان القيم. وأدعو الله أن يمد من عمر الإمام الخامنئي - حفظه الله ورعاه وأطال الله من عمره -. في الحقيقة بالنسبة إلى سؤالك حول الوضع الآن في فلسطين ولا سيما في العشر الأواخر من رمضان عندما امتنع الكيان الصهيوني من أن يرسل المستوطنين ليقتحموا المسجد الأقصى، فإنّ هذا قرار يعتبر هزيمة مدوية منيت بها القوى الصهيونية التي حدّدت برنامجها الأساسي ضمن إطار اقتسام الصلاة أولاً في المسجد الأقصى وتغيير واقعه طبعاً تمهيداً للقضاء عليه وبناء الهيكل المزعوم.
ما حدث الآن من تطور في المقاومة الفلسطينية عموماً وفي الضفة الغربية خصوصاً وبالنسبة إلى المسجد الأقصى أيضاً نستطيع أن نقول أنه تقدم لم يسبق له مثيل ولم يكن متوقعاً بالنسبة للكثيرين من الذين يعتنون بالقضية الفلسطينية ولكن هنا أريد أن أشير إلى نداء كان الإمام الخامنئي قد وجهه منذ سنوات وهو ضرورة تسليح الضفة الغربية، ووضع عينه وبصورة ثاقبة إلى أهمية انتقال ثقل المقاومة إلى الضفة الغربية وإلى القدس.
طبعاً في ذلك الوقت لم يكن هذا الأمر متحققاً ولم يكن حتى مستوعباً أن من الممكن تحقيقه ولكن الذي حدث الآن أنا باعتقادي أكد صحة وبعد نظر الإمام الخامنئي فيما يتعلق بضرورة دعم المقاومة في القدس وتسليحها وضرورة النهوض بالضفة الغربية بالذات، علماً أن كان عندنا مقاومة جبارة وما تزال في قطاع غزة. وطبعاً دائماً كان هناك اهتمام خاص بتعزيز وتقوية غزة، ولكن الشيء الجديد الذي نعيشه الآن هو ما يجري الآن في الضفة الغربية من ظهور السلاح، إن كان في كتيبة مخيم جنين وفي عرين الأسود في نابلس، وهذه ظاهرة منتشرة وممتدة الآن ونسمع دائماً عن بروز كتائب جديدة في كل مخيم وقرية ومدينة في الضفة الغربية.
ما الذي ساعد على الوصول إلى هذه المرحلة على مستوى الضفة؟
طبعاً بالتحليل الدقيق العلمي يجب أن تقرأ هذه التطورات من زاوية أولى قراءة دقيقة لموازين القوى، أنا أولي أهمية خاصة في التطور ليس فقط للإرادة وللرغبات وللمساعي، لا بالنسبة لنا ولا بالنسبة للكيان الصهيوني، وإنما كيف تتطور موازين القوى. وطبعاً نحن جزء في موازين القوى لنا أهميتنا ولكن إذا أردنا تفسير هذه الظواهر، أي ظاهرة بروز السلاح في جنين أو عرين الأسود على سبيل المثال، أو ظاهرة الأمهات العظيمات وكيفيّة استقبالهنّ شهداء من أبنائهن بهذه الروح الإيمانية والروح المضحية بهذه الشجاعة. هذا شيء لم يسبق له مثيل في السابق إلا عند بعض الأمهات ولكن في الوقت الراهن، صارت ظاهرة عامة تكاد لا تشذ أم من أن تأخذ نفس الموقف في الدفاع ودفع أولادها لمواصلة الجهاد.
نعود لموضوع ميزان القوة. حدث تطورٌ مهمٌّ الآن في ميزان القوة على المستوى العالمي، فأمريكا بدأت تفقد سيطرتها وقوتها على النظام العالمي، وبدأت تبرز أقطاب عالمية وإقليمية مهمة وأصبح الوضع يحتاج إلى تغيير. كما إنّ الحرب في أوكرانيا الآن والصراع الذي يدور بين أمريكا والصين والدور الذي تلعبه إيران على مستويات متعددة وأيضاً تركيا، هذا إنّما يدلّ في الحقيقة دلالة واضحة على أن العالم بدأ يخطو نحو نظام عالمي جديد ومعادلة عالمية جديدة. الآن إذا كنّا نقول أن أمريكا بدأت تضعف، فيجب أن يجرّ هذا تلقائياً إلى أن الكيان الصهيوني بدأ يضعف، لأن قوته بالأساس مستمدة من قوة الغرب ومن قوة أمريكا. وقد وصل الأمر الآن في الكيان الصهيوني أنه هزم في جنوب لبنان واضطر إلى أن ينسحب إلى بلا قيد أو شرط عام ألفين ثم هزم في حرب ألفين وستة التي حطمت هيبته كجيش يعني لا يكسر أو لا يهزم ثم هزم في خمس حروب تقريباً في غزة في ألفين وثمانية وألفين واثنا عشر وألفين وأربعة عشر وفي سيف القدس في ألفين وواحد وعشرين، كان الوضع متطوراً جداً.
هذه الهزائم التي مني فيها الكيان الصهيوني الآن توّجت أيضاً بانقسام عميق داخل المجتمع الصهيوني في داخل الكيان بين طرفين يتفقان طبعاً ضدنا وضد القضية الفلسطينية، ولكن هناك خلافٌ مهمّ وقع فيما بينهم وسوف يقضون على أنفسهم بأنفسهم، وقد تبين أيضاً أنّ قلوبهم شتى وهذه حقائق قرآنية موجودة. هذا من جانب العدو أنه ضعف وهزل ونحن عنا قول في فلسطين يقول بالعامية: "بتطيح العين فيك". ما الذي يعنيه هذا؟ يصبح التجرؤ عليك [سهلاً] ويهاجمك. أنا أرى الآن أنّ الشعب الفلسطيني والشباب الفلسطيني والشابات الفلسطينيات والأمهات «طاحت عينهم في العدو الصهيوني»، أي ما عادت له تلك الهيبة وكلّ ما تراه هو عبارة عن عمليّات هجوميّة وليست دفاعيّة، أعني تلك العمليّات التي يسمّونها «عمليّات فرديّة».
هذه كلها عمليات هجومية والأهم أنها تعبر عن إرادة شعبية تضغط باتجاه هذه العمليات، أي إنّ هذا الشاب الذي ينفّذ هذه العملية لا يقوم بعمل فردي هو عبارة عن نزوة أو مجرّد اجتهاد منه، وإنما هو بصورة مرئية أو غير مرئية عمل يعبر عن إرادة شعبية، بدليل أنه بعد ما يستشهد ويقوم بعمليته يحتضن فوراً من الشعب كما لم يسبق لهذه الظاهرة من مثيل، فيحتضن من أمه وأبيه من الرأي العام، وهذا يدل أننا دخلنا في مرحلة جديدة من الهجوم.
طبعاً، نحن تحدّثنا الآن بميزان القوى أيضاً عما حدث لأمريكا من ضعف. الآن من جهة ثانية أصبح هناك تعدد للقطبية وتعدد أقطاب. وفي الإقليم عندنا، صمد محور المقاومة وإيران أيضاً وثبت أمام الحصار والهجمات الكثيرة وإلى آخره، وبالتالي اختل التوازن لمصلحة المقاومة على المستوى الإقليمي. يعني مثلاً يفترض بالكيان الصهيوني حسب مكانته في السابق، عندما تأتي إيران وتصدر أو تنتج صاروخ باليستي عابر للقارات فارط للصوت، وتقول: أنا أمتلك هذا صاروخ، يفترض من ناحية عسكرية واستراتيجية أن يحارب العدو فوراً وأن يعلن الحرب ويمنعها من امتلاك هذا الصاروخ وإنتاجه.
هذا ما حدث لحزب الله حيث يمتلك من القوة والصواريخ وحسب ما يقول العدو نفسه أن هناك حوالي مئة وخمسين ألف صاروخ بيد حزب الله ولعله أكثر. لكن هذه تقديراته ودعنا نقبل هذه التقديرات التي هو يقولها هو. حسناً، من أين أتى كلّ هذا؟ وما هو معناها؟ وإلى أين تتجه هذه الصواريخ؟ الشعب الفلسطيني يعرف هذه القصة. أشعر أنه صار هناك قوة جبارة في إطار المحور المقاومة. قوة جبارة ليس من السهل أن تهاجم من قبل أمريكا والكيان الصهيوني، علماً أني أعتقد أن قرار الحرب ضد إيران وضد حزب الله وضد حماس أو الجهاد في المقاومة الفلسطينية مأخوذ على الطاولة. أنا أذكر عام 1982 عندما صار بأيدي المقاومة صاروخ الكاتيوشا الذي مسافته لا تتعدى الأربعين كيلومتر، يعني لا يشكل خطراً عملياً، عمد الكيان الصهيوني إلى شن حرب على لبنان عام 1982 لمدة خمسة وثمانين يوماً تقريباً. حرب خطيرة وقصف هائل وبالنهاية قذف المقاومة [الفلسطينية] خارجاً إلى تونس، أي حقق هذا الإنجاز عام 1982. فكيف عندما ترى ما تمتلكه المقاومة في لبنان من قوة وهو ليس قادر أن يشنّ الحرب عليها. هذا يدل دلالة أكيدة أنه ضعيف وخائف، لأنه لو كان مطمئناً لقدرته على القيام بحرب وتحقيق الانتصار بها، لقام بها، وما كان هناك شيء يردعه. هو خائف من شنّ حرب حتى بدون جيوش وإنما بالقصف، حيث ستلحق به خسائر لا يحتملها. فلذلك نحن الآن دخلنا في مرحلة جديدة مخالفة للاستراتيجية الدولية التي صاحبت الكيان الصهيوني منذ نشأته حتى وقت قريب، بأنه يجب أن يكون متفوقاً تفوقاً كاملاً وحاسماً على كل الدول في المنطقة وأنه يمتلك القدرة على ضربها أو شيء من هذا القبيل، مثلاً حتى في العراق، لما حاول العراق إنشاء مركز نووي أو شيء [مشابه]، وجه إليه ضربة. ماذا فعل في مصر عام 1967، هجم على مصر واحتل سيناء واحتل الضفة واحتل قطاع غزة واحتل القدس والجولان.
إذاً، إنّ التبدلات العالمية والتغيرات على مستوى المنطقة والرصيد الذي حققه محور المقاومة هذا أعطى دفعاً معنويّاً للفصائل الفلسطينية لتبديل المعادلة داخل الساحة الفلسطينيّة وخلق هذه الحالة التي أشرت إليها على المستوى الاجتماعي في الداخل الفلسطيني؟
طبعاً أنتم ترون الآن هذا الشاب الذي يتجرأ على الكيان الإسرائيلي. يهجم على العدو بالدولاب أو بالسكين أو يتجرأ ويخرج السلاح، أي إنّ الخطورة في هذه المرحلة تكمن في أن يخرج سلاح تحت [سيطرة] الاحتلال. ولا يستطيع العدو أن يأتي ويقتحم ويأخذه، هذه مشكلة كبيرة. الآن كل الذي يفعله العدو في جنين وفي نابلس أنه يتسلل خفية ويقتل ويغتال واحد أو اثنين أو ثلاثة كأنه ذاهب إلى أرض عدو، لا أرض تخضع لاحتلاله. في جنين مثلاً، عام 2002، ماذا فعل العدو لما صار هناك نوع من إرهاصات مقاومة قوية؟ أتى واقتحم جنين واقتحم المخيم بحرب دامت أربعة عشر يوماً تغير فيها جنرالين، لأنه واجه مقاومة باسلة وبطولية أيضاً بذلك الوقت، ولكن قضى عليها وقتل من قتل يعني من الذين استشهدوا، وأسر من أسر وبعدها نامت لمدة غير قصيرة. الآن هذه الظاهرة أكبر من تلك وهو غير قادر أن يعمل الذي عمله في السابق لأنه خائف. لا أقصد أنّه نظرياً لا يمتلك جيش، لديه جيش وما زال عنده أسلحة وعنده طائرات ولكنه خائف من أنه إذا أقدم على هكذا اقتحام، قد يندلع انفجار عام وتتحرك غزة وتتحرك حتى [أراضي] الثمانية وأربعين ويتوحد الشعب الفلسطيني كله، كما من الممكن أن يتحرك لبنان – [أي] وحدة المحاور - التي صارت مؤخراً في شهر رمضان، حيث أطلقت صواريخ من لبنان وصواريخ من سوريا وتحدث [العدو] عن وحدة المحاور ووحدة الساحات. هذا معناه أنّنا دخلنا في المرحلة الجديدة وهذه هي الصورة الجديدة. وأنا برأيي، نحن وصلنا إلى نتيجة أخرى: هذا الوضع الذي نحن فيه الآن هو أفضل وضع يمر على الشعب الفلسطيني منذ مئة عام؛ أفضل وضع. وهو أسوأ وضع يمر على الكيان الصهيوني منذ مئة عام، ما كان الكيان الصهيوني يوماً بهذا الوضع، لا داخلياً ولا جيشه ولا حتى علاقاته الدولية.
ونحن لم نكن يوماً نمتلك القدرة والقوة الموجودة عندنا، كيف ومتى أصبح عندنا قاعدة مقاومة جبارة في قطاع غزة دخلت خمس حروب ويدها على الزناد. أمس حينما استشهد الشيخ خضر عدنان، البطل الأسطوري في الحقيقة، أطلقت غزة مئة صاروخ؛ ما هذا؟!
سماحة الإمام الخامنئي ـ حفظه الله تعالى ـ وفي خطابات عدة يتحدث ويوجه الكلام للشعب الفلسطيني عن بعض الضرورات اللازمة للتقدم على مستوى المقاومة منها وحدة الساحات. ما وصلنا إليه في الضفة الغربية، هل يمكن أن نصور المشهد وصلة ما وصلنا إليه في الضفة الغربية بوحدة الساحات وتطور هذه المراحل للوصول إلى هذه النتائج؟ ولكن حتى يصبح شعار يجري على الأرض أو يكون شيئاً واقعيّاً، هو يحتاج أيضاً لتطور في موازين القوى، يحتاج إلى الوقت حتى تنشأ قناعات بأن هناك شيئاً ملموساً يحصل أيضاً، وليس أمنيات فقط. الرغبة لوحدها لا تكفي. وحدة الساحات هذه قرار كبير، هذا قرار فلسطيني على مستوى الساحات الفلسطينية أن غزة ستتدخّل إذا حدث شيء بالمسجد الأقصى. هذه ليست لعبة!!
وأيضاً بالنسبة للبنان، وبالنسبة للوضع الإقليمي كله، حتى بالنسبة لإيران، أخذ هذا القرار يدل على جرأة عالية وعلى نظرة ثاقبة للأمور وعلى قرار خطير. هذا قرار استراتيجي له نتائجه ونتائجه حرب والحرب فيها انتصار وفيها هزيمة، فإذا قمت بذلك معناه أنك تملك تقدير موقف هجومي فيه تأكيد أو شبه تأكيد أنك ستنتصر. ولذلك أنا برأيي أن قرارات الإمام الخامنئي هي قرارات مدروسة وليست "للتحميس"، أي ليست لرفع المعنويات وإنما دخلنا في مرحلة الجد، دخلنا في هذه المواجهة.
لعله يوماً ما، حيث الفارق كبير بيننا وبين العدو، والعدو قادر ويتحكم، كنا بحاجة حينها لرفع المعنويات والحماس من أجل الصمود، لكن الآن، إذا عمدت إلى تحليل هذه الخطابات ومطالعتها بدقة، ترى أنها خطابات مدروسة محسوبة وجدية، لا مزاح فيها. ما سبب تردّد العدوّ؟ لأنه هو نفسه مقتنع أن الأمور جديّة هنا.
ماذا عن الاعتقاد الفلسطيني على طول فترة الصراع. يعتقد اليوم بهذه الفكرة ويذهب بها إلى التطبيق العملي. أشرتم منذ قليل إلى المحيط على المستوى الإقليمي ورصيد إنجازات المقاومة هذا، كم كان له أثر على مستوى الاعتقاد بالفكرة.
أريد أن أؤكّد لك أمراً وهو أن الشعب الفلسطيني شعب لديه خبرة و"ياما ماكل عصي" و "ياما ماكل هزائم" و "ياما سامع خطابات مدوية ما عملت أي شيء"، حسناً، ما الذي غيره الآن؟! ما الشيء المختلف عن الماضي الذي يحدث الآن؟ والذي له قيمة أنه مع مرور الوقت يحمل درجة عالية من المصداقية. بدأ الشعب الفلسطيني يشعر الآن، ليس بالضرورة بالوعي وبالقناعة وإلى آخره إذ أحياناً يتشكل إحساس عام ربّما يكون غامضاً أحياناً، أن الدنيا تغيرت وأننا نستطيع أن نفعل، ونستطيع أن نهاجم حتى. عندما يقال لك هذا المثل "يصبح في شعور أنه تطيح العين فيك" (تسقط من عينه، يجب أن تكون هناك بوادر قوة لديك فربما تضرب الطرف الآخر، ولكن عندما يراك الطرف الآخر تضعف، فيهاجمك هنا. فلذلك، عندما يبدأ الشعب الفلسطيني بمقاومته، ويقوم بما يقوم به الآن، فهذا معناه أن عنده شعور بإمكانية أن يحدث هذا على الأرض. لا يحدث هذا الشعور إلا بعد تجربة وبعد تأكد ويأخذ وقته، لا تعتقد أن هذا ابن اللحظة. نحن لدينا عشرات السنين من النضال. حسناً، خذ على سبيل المثال رعد الذي نفذ عملية «دوزين كوف» أو ضياء الذي نفذ عملية «بن براك». حسناً، هؤلاء موجودون قبل عشر سنين وقبل خمس سنين وهم شباب، ما الذي دفعهم الآن في هذه الفترة، مع أنّه هو نفسه، هو نفس الشخص، هو نفس الشعب ونفس الأمهات معناه أنّه قد حدث تغيير في قراءته للوضع، وبشعوره وبتقييمه. ماذا يمكن للعدو أن يفعل؟ أي الذين سحبوا السلاح وأعلنوا المقاومة في جنين، لو لم يكونوا متأكدين أن العدو لن يكتسحهم لعلهم لم يفعلوها. ليس هناك شيء يضطرهم أن يفعلوها، ولكن هم رجحوا أننا نستطيع أن نفرض على العدو. أنا هنا أحاول أن أجمع بين الحقائق التي تتشكل على الأرض والمصداقية الذي تتشكل على الأرض. الناس عندهم استعداد دائم للتضحية، عندهم شجاعة دائماً، ولكن أحياناً الشجاعة كانت بالصبر، تستقبل العصي، ليست الثورة دائماً. كلا، هذا شيء يتشكل بالحياة وبالنضال وبالمقاومة وبالأمثلة وبالقدوات. الناس تراقب وتعرف. أنا بحسب تجربتي القديمة، كل عمري كانت تأتي مثلاً ظروف نريد من الناس أن تتظاهر، ندعوهم إلى التظاهر: انزلوا تظاهروا أو شيء من هذا القبيل، لا ينصتون لكلامنا ثم تأتي الشرطة وتعتقلنا بضعة الأشخاص نحن، تضربنا وتدخلنا السجن. مرات أخرى، لا نرى إلا أن الناس تدفقت إلى الشوارع، وملأت الشوارع. حتى لما وقعت الثورة الإسلامية في إيران، كان الحال نفسه أيضاً. يجب أن يحدث تراكم، أي في ثورة خرداد في 1963 لم يفعلوا كما فعلوا عام 1979، لأن هناك عوامل هي سنن من سنن الله. عندما أتحدّث عن موازين القوى، الآن يوجد أناس يعتقدون أنه الكلام عن موازين القوى أمر يتناقض مع الإيمان وأنه ليس تركيز على الإيمان وأنه كذا.. لا، موازين القوى سنن إلهية صنعها ربنا، كيف تتشكل السنن، كيف تؤثر الموازين سلباً وإيجاباً؟ مثل كل شي يحدث في الحياة.
أشرت إلى الثقة بالنفس والمصداقية. يعني إذا أردنا اليوم أيضاً أن نستحضر كلام سماحة الإمام الخامنئي ـ حفظه الله تعالى ـ في حديثه عن أفول الكيان الصهيوني، كان الكلام يدور حول خمسة وعشرين سنة، واليوم يدور حول أقل من ذلك، كم يستشعر الشعب الفلسطيني الأمل من هذا الكلام؟
أنت الآن يجب أن لا تلوم كثيراً من الناس عندما سمعوا هذا الكلام وقالوا: معقول؟! كيف خمسة وعشرين سنة؟! كيف خمسة عشر سنة؟! كيف أصبح أقل من خمسة وعشرين؟! في البداية، لأن هذا يدخل بشكل مضاد لموازين القوى التي كانت سائدة والتي نحن نعلمها: كيف من الممكن أن يزول الكيان الصهيوني بهذه السهولة؟! بالتالي عندما نستمع إلى هذا الكلام ومن شخص مسؤول، ومن شخص له احترامه وله مصداقيته وله أهميته، لا نستطيع أن نقول فقط هكذا يريد، بل لديه حسابات بعضها نعرفها، ولا نعرف بعضها الآخر. الآن أصبح الحديث عن إمكانية أفول الكيان الصهيوني قابل للنقاش. وهذه ليست بأفكار، لأنه عندما تقول قريب، يعني أنك تريد أن تهزم عالماً بأكمله، وليس أن تهزم الكيان الصهيوني وحفنة من الذين يقبعون في فلسطين. بل المستكبرين الذين يسيطرون على العالم. عندما تقول هذا الكلام، فهذا يعني أنك ترى المستكبرين يتكسرون وتريد أن تتحداهم. التفت، هناك نوعان من التحدي. تستطيع أن تقول في السابق دائماً كان هناك تحدٍّ وصمود وصبر، الآن سوف يتحول هذا التحدي لانتصارات، وسوف يتحول لشيء ملموس، ليس فقط إلى صمود وعنفوان وتحضير وتحدي. نحن دخلنا الآن في مرحلة جديدة "فظيعة"، أنا شخصياً ما كنت أتصور أنّني قد أرى في حياتي موازين قوّة مثل هذه أو ظرف مثل هذا أو وضع مثل هذا. مثلاً هذا صار أمراً محسوماً، أن تصير الضفة درع القدس، فهذه تحتاج عملياً إلى ما تحدّث عنه الإمام الخامنئي. عندما رفع الإمام نظرية "سلحوا الضفة"، فهذا ليس بالأمر الهين. من كانت لديه الجرأة أن يتحدث حول هذا الموضوع؟! لم يكن أمراً سهلاً وفعلاً، وقد وقع جهد كبير حتى بدأ يتشكل وتحدث متغيرات مهمة حتى تحولت إلى واقع الآن. هذه أمورٌ تحتاج إلى إيمان. التفت، الإيمان موجود دائماً، ولكن هناك فرق بين إيمان الاحتمال والنضال والتضحية؛ هذا نوع من الإيمان، وبين إيمان أنك من الممكن أن تنتصر وتستطيع أن تهزم. هذا ليس مسألة بسيطة.
لو سمحت دعني أتحدث قليلاً عن "ماوتسي تونغ"، أي أن أخرج قليلاً عن عالمنا الإيماني، "ماوتسي تونغ" له عبارة كانت تدهشني حيث يقول: «يجب أن نتجرَّأ على النصر»، أي إمكانية أنّ تتجرّأ تحتاج جرأة، كنت أقول: كيف يمكن أن يحدث ذلك؟! فعلاً الكلام الذي يطلقه الإمام الخامنئي هو تجرؤ على الانتصار. أنت تعتقد أن من يقول لك أنا أريد أقف مع الشعب الفلسطيني بوحدة الساحات؛ وهل هذه مزحة؟! ليست بالأمر السهل! ماذا عن إمكانيات العدو، أنت لا تقاتله وحده. صحيح أنك أنت متجرأ عليه ولكن يجب أن تعرف أنك تحتاج جرأة ويجب أن تتحمل مواجهته، أي إنّ الانتصار هنا لن يكون بالأمر السهل، ولكن سوف يأتي. هذا هو الفارق.
وبالتالي أنا لا انظر لهذا الكلام أنه كلام للحماسة، ولا الكلام لرفع المعنويات، ولا للمزايدة. هذا الكلام للإعداد، ولكن ميزة هذا الكلام أنه سابق لأوانه وبعيد النظر، وليس من السهل أن ترى أهميته، تماماً مثلما حصل عندما أعلن الإمام الخميني ـ رحمه الله ـ يوم القدس في كل آخر جمعة من شهر رمضان. أنا في ذلك الوقت، كنت لعله في طهران وقتها، ولكن قلت: ما الأمر الآن؟ ما الذي طرأ على فكر هذا الأخ حتى يأتي بقضية القدس؟! نحن كنا في الساحة الفلسطينية معتبرين أن القدس هي قضية موجودة [كباقي القضايا] ولكن أن تجعلها قضية القضايا وتوحد الأمة الإسلامية كلها عليها وتجعلها هي نقطة الصدام الأولى الذي تأخذك إلى الصراع!
كانت نظرة ثاقبة بعيدة المدى وأهميتها أن انظر كيف تبدّلت هذه التطورات لواقع، لأن السياسة والأفكار أيضاً تحتاج أن تثبت نفسها على الأرض، فتقديرات الموقف ليس فقط أن تقوم بتقدير الموقف. عندنا مثل شعبي لعله موجود في بلاد أخرى «الماء يكذب الغطاس» الذي يقول لك: أنا أجيد الغطس، تفضل يا أستاذ هذه الماء، والتطبيق هو الذي يكذب أو الغطاس يثبت صدقه.
شكراّ جداّ على هذه الفرصة التي أتحتموها لنا للمشاركة في هذا اللقاء والشكر من موقع الإمام الخامنئي ـ دام ظلّه ـ وفريق الموقع على حضوركم وتلبيتكم لهذه الدعوة.
يا سيدي شكراً، واجب علينا وأنا أتشكركم، شكراً والله يعطيكم القوة ويوفقكم بعملكم إن شاء الله.
حياكم الله، بارك الله بكم، وشكراً جزيلاً، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.