نرحب بكم، سيادة المطران عطا الله حنا، رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في القدس المحتلة، ونشكركم على قبول هذه الدعوة، ونود أن نطرح عليكم بعض الأسئلة.

سيادة المطران، جاء السيد المسيح (ع) الذي وُلد على مقربة من هنا لينير الطريق أمام البشرية وقد كانت رسالته رسالة رحمة ومحبة واحترام وانحياز إلى الإنسانية وكل إنسان مظلوم في هذا العالم، فما رسالتكم إلى أتباع السيد المسيح في العالم؟

من قلب مدينة القدس، هذه المدينة المقدسة، حاضنة المقدسات والتاريخ والتراث والعراقة، نوجه نداءً حاراً إلى المرجعيات الروحية في العالم كافة، وخاصةً المرجعيات المسيحية والمرجعيات الإسلامية، بضرورة الانحياز إلى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. قضية فلسطين، قضية القدس، هي قضيتنا جميعاً. هي قضيةٌ توحد الأمة كلها. توحد المسيحيين والمسلمين جميعاً. ولذلك إننا نطالبهم ونناشدهم ونتمنى منهم أن يكونوا دوماً مدافعين حقيقيين عن القدس التي يستهدفها الاحتلال، ومدافعين حقيقيين عن القضية الفلسطينية التي هي أنبل وأعدل قضيةٍ عرفها التاريخ الإنساني الحديث. وما أود أن أقوله للمرجعيات الروحية المسيحية خاصة: أنتم عندما تدافعون عن فلسطين، وعندما تدافعون عن القدس، أنتم تدافعون عن إيمانكم وعن تاريخكم وعن تراثكم، لأنَّ فلسطين هي مهد المسيحية، وأهم المقدسات المسيحية موجودةٌ في فلسطين، وأنتم عندما تدافعون عن فلسطين وعن عاصمتها القدس أنتم تدافعون عن المسيحية في مهدها.

سيادة المطران، بعث قائد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي رسالةً إلى غبطة بابا الفاتيكان فرنسيس مشيداً بمواقفه في تلطيف العلاقات بين الإسلام والمسيحية ومؤكداً بذل الجهود في سبيل الدفاع عن مظلومي العالم خاصةً في فلسطين واليمن، فكيف تقرؤون أبعاد هذه الرسالة ودلالاتها؟

أنا أعتقد بأنَّ كل المرجعيات المسيحية في العالم سواءً كان هذا قداسة البابا فرنسيس الذي يُعتبر المرجعية الأولى في الكنيسة الكاثوليكية وكذلك البطاركة ورؤساء الكنائس المسيحية في الكنائس الأرثوذكسية وفي غيرها من الكنائس، أنا أعتقد بأنهم جميعاً يجب أن يتبنوا من منطلقات أخلاقية وإنسانية وإيمانية، أن يتبنوا مسألة الدفاع عن القضية الفلسطينية. لا يجوز الحديث عن القضية الفلسطينية وعن المظالم التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني بطريقةٍ ديبلوماسية منمقة لكيلا تنزعج هذه الجهة أو تلك. الديانة المسيحية والقيم المسيحية ورسالة السيد المسيح الذي أتى إلى هذا العالم لكي يكون نصيراً للفقراء والمنكوبين والمشردين والمستضعفين، ومن وحي هذه الرسالة، يجب أن نكون دائماً مدافعين أقوياء، مدافعين بكل صلابة وبكل مبدئية، عن كل الشعوب المظلومة، وعن كل الشعوب المتألمة، وعن كل الشعوب التي تعاني من الاضطهاد والاستبداد ولا سيما شعبنا الفلسطيني المرابط المدافع الصامد الذي هو سدنة المقدسات وشبابنا بصدورهم العارية هم الذين يدافعون عن القدس وعن مقدساتها.

إلى جانب الدعم البابوي، كيف يمكن لمسيحيي العالم أن يدعموا الشعب الفلسطيني المظلوم وما الذي يمكن وما الذي تفعلونه - سيادة المطران - في هذا الصدد؟

المسألة ليست فقط وليست مقصورةً في أن يدعمنا العالم المسيحي أو الكنائس المسيحية. نحن نريد من المرجعيات الدينية المسيحية ومن الكنائس المسيحية أن تتبنى هذه القضية وأن يدافعوا عن هذه القضية باعتبارها قضيتهم وليس باعتبارها قضية بعيدة عنهم؛ القضية الفلسطينية هي قضية حقٍ وعدالة، وكما هي قضيةٌ إسلامية هي أيضاً قضيةٌ مسيحية، وهي قضيةٌ تخص كل إنسانٍ حر في هذا العالم بغض النظر عن انتمائه الديني أو خلفيته الثقافية. ولذلك إننا نطالب ونتمنى أن يكون هنالك صوتٌ مسيحي من المرجعيات المسيحية كلها. هذا هو نداؤنا الذي نطلقه من هنا من القدس، من فلسطين، حيث المقدسات المسيحية الأهم في العالم: نطالب الكنائس المسيحية في العالم بأن تتبنى مسألة الدفاع عن القضية الفلسطينية، وأن تعتبر هذه القضية أنها قضية تخصهم. يعني: لا يتضامنون معها كأنهم غرباء عنها. يتبنون هذه القضية باعتبارها قضية المسيحيين كما أنها قضية المسلمين وكما أنها قضية كل إنسان حر في هذا العالم.

سيادة المطران، شهدنا حديثاً «مسيرة الأعلام» الصهيونية وقبلها عدداً من التحركات، إذ يعمد الصهاينة إلى انتهاك المقدسات الإسلامية والمسيحية في إطار مشروعٍ أكبر، أي تهويد القدس، فما رأيكم إزاء الخطوات التي يسعى الكيان الصهيوني إلى تكريسها؟

لن يتمكن الاحتلال من تمرير مشاريعه في القدس لأنَّ هوية القدس العربية الفلسطينية بمقدساتها المسيحية والإسلامية هي أقوى من كل مشاريعهم ومن كل مسيراتهم ومن كل أجنداتهم وبرامجهم الهادفة إلى طمس معالم القدس وتزوير تاريخها وتهميش وإضعاف الحضور الفلسطيني فيها. الفلسطينيون في القدس ليسوا ضيوفاً عند أحد، وليسوا عابري سبيل، وليسوا بضاعةً أُتي بها من هنا أو من هناك. نحن أصيلون في انتمائنا إلى القدس. القدس لنا. هذه هي هوية القدس. هذه هي وهذا هو تاريخ القدس. هذا هو تراث القدس. مسيرتهم الاستفزازية أتت حقيقةً في إطار سياسةٍ ممنهجة هادفة لتزوير وطمس معالم مدينة القدس، ولكن كل هذا سوف يفشل، لأنَّ المقدسيين يقفون بالمرصاد للاحتلال، وهم يتصدون لسياسات الاحتلال بكل بسالةٍ وقوةٍ وصمودٍ وإباء.

هناك محاولاتٌ صهيونية لإضفاء الطابع الديني على الصراع الذي يجري اليوم، وقد حدثت محاولةٌ لتسميمكم قبل عامين، محاولةٌ تهدف إلى إسكات أي صوت مسيحي يدافع عن القضية، فما الذي يريده الكيان الصهيوني من هذه المحاولات؟

ما أود أن أقوله حقيقةً أننا لا نخاف لا من سمومهم ولا من مؤامراتهم ولا من تهديدهم ولا من وعيدهم؛ نحن أصحاب قضية عادلة ندافع عنها ونؤمن بها وننتمي إليها. نحن ننتمي إلى هذا الشعب وننتمي إلى هذه القدس وننتمي إلى هذه القضية، وبالتالي كل الشعب الفلسطيني وليس فقط هذا - لا أقوله فقط أنا - هذا قولٌ يقوله الفلسطينيون جميعاً: إنَّ هذه القضية هي قضيتنا ولن نخاف أمام أي اعتقالاتٍ أو استهدافٍ أو ممارساتٍ ظالمة. لا، بل العكس هو الصحيح. إنَّ ممارساتهم وسياساتهم التي تستهدفنا كفلسطينيين لن تزيدنا إلا عزيمةً وصموداً وإباءً وتشبثاً بهذه القضية التي هي أنبل وأعدل قضيةٍ عرفها التاريخ الإنساني الحديث.

سيادة المطران، يشكل المسيحيون ركناً أساسياً في النسيج الفلسطيني بل هم جزءٌ لا يتجزأ من هذا الشعب وقد قدّموا كثيراً من التضحيات وليس آخرها اغتيال العدو الصهيوني ابنة القدس الصحافية شيرين أبو عاقلة، فكيف تقرؤون عملية الاغتيال؟

يعني أولاً بالنسبة إلينا الشهيدة المناضلة شيرين أبو عاقلة لم تكن فقط صحافية أو إعلامية أو ناقلة للخبر، بل كانت مناضلة من الطراز الأول. سعت بوسائل مختلفة ومتعددة لإيصال صوتها وهو صوت الشعب الفلسطيني إلى كل مكانٍ في هذا العالم، ولذلك تم استهدافها وتم اغتيالها، ولكن أتى رد الفلسطينيين جميعاً في جنازتها. جنازة شيرين أبو عاقلة الشهيدة المناضلة في مدينة القدس لم تكن جنازةً عادية بل كانت رسالة أطلقها المقدسيون وأطلقها الفلسطينيون أنهم شعبٌ واحد لا يقبل القسمة على اثنين. مسيحيين ومسلمين معاً نشيّع جثامين شهدائنا ونستقبل أسرانا وندافع عن قدسنا ومقدساتنا. لقد كانت جنازة شيرين أبو عاقلة عرساً فلسطينياً وطنياً بامتياز في مدينة القدس. وبهذه المناسبة نحن نؤكد كمسيحيين فلسطينيين أنَّ انتماءنا كان وسيبقى للمسيحية المشرقية التي بزغ نورها من هذه الأرض المقدسة. انتماؤنا سيبقى لفلسطين التي هي قضيةٌ تجمعنا كأبناءٍ للشعب الفلسطيني الواحد، وتوحدنا كمسيحيين ومسلمين. في فلسطين هنالك مسيحيون وهنالك مسلمون ولكن عندما نتحدث عن فلسطين وعندما نتحدث عن القدس نحن طائفةٌ واحدة ونحن عائلةٌ واحدة اسمها الشعب العربي الفلسطيني. حاول الاحتلال عبر أبواقه وعملائه ومرتزقته تفكيكنا وشرذمتنا وإثارة الفتن في صفوفنا وبين ظهرانينا، ولكنه فشل في ذلك، ونحن اليوم موحدون وعلى قلب رجلٍ واحد أكثر من أي وقتٍ مضى.

سيادة المطران عطا الله حنا، جرت خلال السنوات القليلة الماضية عمليات تسريب لعقارات كثيرة في فلسطين، وكان منها عقاراتٌ للوقف المسيحي. كيف ترون خطورة هذه القضية، وما الإجراءات التي اتخذت أو سوف تُتخذ لمنع تكرار هذا الأمر، أو لاسترجاع الأوقاف المسلوبة؟

هذه ليست تسريبات بل هي عمليات نهبٍ وسرقةٍ للأوقاف سواءً كانت مسيحية أو إسلامية. من سرّب لا يحق له أن يفعل ذلك لأنَّ هذه الأوقاف ليست سلعةً معروضةً للبيع، ومن اشترى أو من استلم وأخذ واستولى على هذه العقارات لا يحق له أن يفعل ذلك لأنَّ هذه هي عقاراتٌ فلسطينية سواءً كانت مسيحية أو إسلامية. هذه التسريبات وهذه الصفقات وهذه السرقات وعمليات النهب إلى آخره... التي ارتكبت بحق أوقافنا المسيحية والإسلامية كلها باطلة وغير قانونية وغير شرعية، وأصلاً الاحتلال وجوده غير قانوني وغير شرعي. وبالتالي ما أُخذ عنوةً يجب أن يعود إلى أصحابه. سرقة الأوقاف المسيحية هدفها إضعاف الحضور المسيحي في فلسطين. لا يريدوننا أن نبقى. لا يريدون أن يبقى مسيحيون فلسطينيون في هذه الديار. يريدون تهميش حضورنا وإضعاف وجودنا في هذه البقعة المقدسة من العالم. وما يحدث مع أوقافنا ومقدساتنا المسيحية يحدث أيضاً في الأقصى ومع الأوقاف الإسلامية. كلنا مستهدفون ولا يستثنى من ذلك أحدٌ على الإطلاق.

أين تكمن - سيادة المطران - أهمية التقارب الإسلامي-المسيحي مقابل المحاولات لنشر خطابات الكراهية، وكيف يمكن لهذا التقارب أن يخدم القضية الفلسطينية؟

في فلسطين ليس هنالك فقط تقارب إسلامي-مسيحي، وليس هنالك فقط تسامح إسلامي-مسيحي؛ العلاقة الإسلامية-المسيحية في فلسطين هي ليست علاقة تسامحٍ أو تقاربٍ فحسب. هي علاقة الجذور الواحدة والانتماء الواحد والوطن الواحد والقضية الواحدة. ولذلك نحن هنا وإن تعددت أدياننا وانتماءاتنا الدينية إلا أننا ننتمي إلى أسرةٍ بشريةٍ واحدة خلقها الله. ننتمي إلى شعبٍ فلسطينيٍ واحد يناضل من أجل الحرية والكرامة واستعادة الحقوق السليبة. صحيح أنَّ هنالك أصواتاً نشازاً وصحيح أنَّ هنالك محرضين ومتاجرين وأبواقاً إعلامية مأجورة. هذا كله موجود، ولكن هؤلاء لم ينجحوا في تمرير مشاريعهم في فلسطين. فلسطين كانت وستبقى وطناً واحداً لشعبٍ واحد موحد بمسيحييه ومسلميه، ولن يتمكن الاحتلال عبر مرتزقته وعملائه بكافة مسمياتهم وأوصافهم من النيل من هذه الوحدة والأخوة الإسلامية-المسيحية.

قدّم سماحة الإمام الخامنئي خيار الاستفتاء الشعبي حلاً سياسياً وديبلوماسياً للقضية، أي إجراء استفتاء عام يصوّت فيه أبناء الشعب الفلسطيني كافة من مسيحيين ومسلمين ويهود الذين هم أهل فلسطين أي قبل سنة 1948. ما آفاق هذا الحل - سيادة المطران - وهل يرضخ الكيان الصهيوني وداعموه لخيار الشعب في فلسطين؟

ما نحتاجه كفلسطينيين أولاً هو أن نكون موحدين وأن نعمل على إنهاء الانقسامات. هنالك انقسامات مؤسفة ومؤلمة يجب أن تزول. لا يمكننا، لا يمكننا أن نقبل باستمرارية هذه الانقسامات. القدس مستهدفة. القضية الفلسطينية مستهدفة. كل شيءٍ في هذه الديار مستهدف. وبالتالي أنا أعتقد بأنَّ هنالك حاجة ملحة إلى ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي. البعض يتحدثون عن غزة والبعض الآخر يتحدثون عن رام الله وكأنَّ غزة شيء ورام الله شيءٌ آخر. كلنا شعب واحد سواءً في غزة أو في رام الله أو في القدس أو في كل فلسطين. هذا الوطن يجب أن يعود إلى أهله وأن يحرر كما أنَّ القدس يجب أن تعود إلى أصحابها وأن تحرر. أنا أعتقد بأننا ما نحتاجه هو ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي لكي نكون جبهةً واحدةً متراصة ولكي نكون أقوياء لأنَّ وحدتنا هي قوةٌ لنا، وأن نخاطب العالم بكافة شعوبه وبكافة أديانه وبكافة أعراقه وأن نخاطب العالم وشعوب العالم حول عدالة هذه القضية وضرورة التضامن والوقوف ومؤازرة هذه القضية. نحن نؤمن بأنَّ قوة الحق هي أقوى من قوة الباطل. الاستعمار والاحتلال الجاثم على صدورنا هو باطل. هو شر يجب أن يزول. أما الحق، فهو ما ينادي به أبناء شعبنا من حريةٍ وكرامةٍ واستعادةٍ للحقوق السليبة، وهذا أمر سوف يحصل عاجلاً أم آجلاً، ونحن نتمنى أن يكون هذا عاجلاً وليس آجلاً.

شكراً جزيلاً لكم، سيادة المطران عطا الله حنا، رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في القدس المحتلة.

شكراً.