وكالة أنباء الحوزة - بدأت الدعوة سرّية ، وامتدّت شيئاً فشيئاً فهوت إليها أفئدة ثلّة من الناس ، إقبالاً منها على تلك الرسالة الحقّة . وكان علىّ ( عليه السلام ) أوّل من آمن بها من الرجال ، وشهد بنبوّة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ( 1 ) ، ثمّ تبعه آخرون . . . .
وبعد ثلاث سنين نزلت الآية الكريمة : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأْقْرَبِينَ ) ( 2 ) إيذاناً ببدء الدعوة العلنيّة ابتداء بعشيرة النبيّ الأقربين .
فأمر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) بإعداد الطعام وإقامة مأدبة خاصّة ؛ ليجتمع آل عبد المطّلب ، فيبلّغهم النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) برسالته ، وفي اليوم الأوّل تعذّر عليه ذلك بسبب ضجيج أبي لهب ولغطه ، ثمّ أعاده عليهم في غد ذلك اليوم ، وبعد فراغهم من الطعام بدأ كلامه بحمد الله تعالى وقال : ” إنّ الرائد لا يكذب أهله و . . . “
وانتهى كلامه ، ولم ينهض معلناً عن متابعته ومرافقته ( صلى الله عليه وآله ) والإيمان برسالته الإلهيّة إلاّ علىّ ( عليه السلام ) ؛ حيث قام وصدح بذلك ، فأجلسه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتكرّر هذا الموقف في للمرّة الثانية والثالثة ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) :
” اجلس ؛ فأنت أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي من بعدي ” ، وخاطب الحاضرين بقوله : ” إنّ هذا أخي ، ووصيّي ، وخليفتي عليكم ؛ فاسمعوا له وأطيعوه ” .
إلاّ أنّ ذوي الضمائر السود ، والقلوب العليلة ، والأبصار العمي ، والأسماع الصمّ لم يذعنوا لصوت الحقّ ، ولجّوا وكابروا وعتَوا عن الكلام النبويّ ، بل إنّهم اتّخذوا أبا طالب سخريّاً . لكنّ الحقّ علا ، وطار كلامه ( صلى الله عليه وآله ) في الآفاق طلقاً من ذلك النطاق الضيّق ، ورسخت هذه الحقيقة فضيلةً عظمى إلى جانب فضائله ( عليه السلام ) ، وتبلور سند متين لإثبات ولايته إلى جانب عشرات الأسانيد الوثائقيّة ، وأعلن النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) عمليّاً وحدة النبوّة والولاية في الاتّجاه والمسير وتلازمها ، ودلّ الجميع في اليوم الأوّل من الجهر بدعوته استمرار القيادة وامتدادها بعده ، وأودع ذلك ذمّة التاريخ ، والمهمّ هو تبيان موقع الكلام النبويّ .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) كلمته : ” فاسمعوا له وأطيعوه ” في وقت كانت قريش قد تصامّت عن سماع كلامه ولم تعره آذانا صاغية ، فمن البيّن أنّ هذا الكلام كان للمستقبل وأجياله القادمة ممّن يقرّ بنبوّته ( صلى الله عليه وآله ) ، ويعتقد بحجّيّة كلامه .
1 – الإمام عليّ ( عليه السلام ) : لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَْقْرَبِينَ ) دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لي : يا عليّ ، إنّ الله أمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين ، فضقتُ بذلك ذرعاً ، وعرفت أنّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمتُّ عليه حتى جاءني جبرئيل فقال : يا محمّد ، إنّك إن لا تفعلْ ما تؤمر به يعذّبك ربّك . فاصنع لنا صاعاً من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عُسّاً ( 3 ) من لبن ، ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتى أُكلّمهم وأُبلّغهم ما أُمرت به .
ففعلت ما أمرني به ، ثمّ دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم ، فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حِذْيةً ( 4 ) من اللحم ، فشقّها بأسنانه ، ثمّ ألقاها في نواحي الصَّحْفة ( 5 ) .
ثمّ قال : خذوا بسم الله ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلاّ موضع أيديهم ، وأيم الله الذي نفس عليّ بيده ، وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمتُ لجميعهم .
ثمّ قال : اسقِ القوم ، فجئتهم بذلك العسّ ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام ، فقال : لَهَدّ ( 6 ) ما سحركم صاحبكم ! فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، فقال : الغدُ يا عليّ ، إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن أُكلّمهم، فعُدْ لنا من الطعام بمثل ما صنعت ، ثمّ اجمعهم إليّ.
قال: ففعلت، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة.
ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العسّ ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثمّ تكلّم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : يا بني عبد المطّلب ! إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ؛ إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت : . . . أنا يا نبيّ الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثمّ قال : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ( 7 ) .
2 – عنه ( عليه السلام ) : لمّا نزلت : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَْقْرَبِينَ ) . . . دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بني عبد المطّلب وهم إذ ذاك أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ، فقال : أيّكم يكون أخي ووصيّي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي ؟
فعرض عليهم ذلك رجلاً رجلاً ، كلّهم يأبى ذلك ، حتى أتى عليَّ ، فقلت : أنا يا رسول الله ، فقال : يا بني عبد المطّلب ! هذا أخي ووارثي ووصيّي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي ( 8 ) .
3 – شرح نهج البلاغة عن أبي جعفر الإسكافي : قد روي في الخبر الصحيح أنّه ( صلى الله عليه وآله ) كلّفه ( عليه السلام ) في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكّة أن يصنع له طعاماً ، وأن يدعو له بني عبد المطّلب ، فصنع له الطعام ، ودعاهم له ، فخرجوا ذلك اليوم ، ولم ينذرهم ( صلى الله عليه وآله ) ؛ لكلمة قالها عمّه أبو لهب ، فكلّفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام ، وأن يدعوهم ثانية ، فصنعه ، ودعاهم فأكلوا .
ثمّ كلّمهم ( صلى الله عليه وآله ) فدعاهم إلى الدين ، ودعاه معهم ؛ لأنّه من بني عبد المطّلب ، ثمّ ضمن لمن يؤازره منهم وينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين ، ووصيّه بعد موته ، وخليفته من بعده ، فأمسكوا كلّهم وأجابه هو وحده ، وقال : أنا أنصرك على ما جئت به ، وأُوازرك وأُبايعك ، فقال لهم – لمّا رأى منهم الخذلان ، ومنه النصر ، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة ، وعاين منهم الإباء ومنه الإجابة : هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي ، فقاموا يسخرون ويضحكون ، ويقولون لأبي طالب : أطِع ابنك ؛ فقد أمّره عليك ( 9 ) .
4 – الإرشاد : إنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) جمع خاصّة أهله وعشيرته في ابتداء الدعوة إلى الإسلام ، فعرض عليهم الإيمان ، واستنصرهم على أهل الكفر والعدوان ، وضمن لهم على ذلك الحظوة في الدنيا ، والشرف وثواب الجنان ، فلم يجبه أحد منهم إلاّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فنحله بذلك تحقيق الأُخوّة والوزارة والوصيّة والوراثة والخلافة ، وأوجب له به الجنّة .
وذلك في حديث الدار ، الذي أجمع على صحّته نُقّاد الآثار ، حين جمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بني عبد المطّلب في دار أبي طالب ، وهم أربعون رجلاً ، يومئذ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة ، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُدّ من البُرّ ، ويُعَدّ لهم صاعٌ من اللبن ، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذْعة ( 10 ) في مقام واحد ، ويشرب الفَرَق ( 11 ) من الشراب في ذلك المقام ، وأراد ( عليه السلام ) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبعهم وريّهم ممّا كان لا يُشبع الواحد منهم ولا يرويه .
ثمّ أمر بتقديمه لهم ، فأكلت الجماعة كلّها من ذلك اليسير حتى تملّؤوا منه ، فلم يَبِن ما أكلوه منه وشربوه فيه ، فبهرهم بذلك ، وبيّن لهم آية نبوّته ، وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه .
ثمّ قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب : يا بني عبد المطّلب ! إنّ الله بعثني إلى الخلق كافّة ، وبعثني إليكم خاصّة ، فقال عزّ وجلّ : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَْقْرَبِينَ ) وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأُمم ، وتدخلون بهما الجنّة ، وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّي رسول الله ، فمن يجبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي . فلم يجب أحد منهم .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقمت بين يديه من بينهم . . . فقلت : أنا – يا رسول الله – أُؤازرك على هذا الأمر ، فقال : اجلس ، ثمّ أعاد القول على القوم ثانية فأُصمتوا ، وقمت فقلت مثل مقالتي الأُولى ، فقال : اجلس . ثمّ أعاد على القوم مقالته ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقلت : أنا أُؤازرك – يا رسول الله – على هذا الأمر ، فقال : اجلس ؛ فأنت أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي .
فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : يا أبا طالب ! لِيَهْنِك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ؛ فقد جعل ابنك أميراً عليك ( 12 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) راجع : القسم العاشر / الخصائص العقائديّة / أوّل من أسلم .
( 2 ) الشعراء : 214 .
( 3 ) العُسّ : القدح الكبير ( النهاية : 3 / 236 ) .
( 4 ) الحِذْية : أي قطعة . قيل : هي – بالكسر – ما قطع من اللحم طولاً ( النهاية : 1 / 357 ) .
( 5 ) الصَّحْفَة : إناء كالقَصْعة المبسوطة ونحوها ( النهاية : 3 / 13 ) .
( 6 ) لَهَدّ : كلمة يُتعجّب بها ( النهاية : 5 / 250 ) .
( 7 ) تاريخ الطبري : 2 / 319 – 321 ، تاريخ دمشق : 42 / 48 / 8381 ، تفسير الطبري : 11 / الجزء 19 / 121 ، شرح نهج البلاغة : 13 / 210 ، شواهد التنزيل : 1 / 486 / 514 كلّها عن عبد الله بن عبّاس وص 543 / 580 عن البراء من دون إسناد إلى المعصوم نحوه ، الكامل في التاريخ : 1 / 487 ، كنز العمّال : 13 / 131 / 36419 وص 114 / 36371 ؛ الأمالي للطوسي : 582 / 1206 عن عبد الله بن عبّاس وفيه ” ووزيري ” بعد ” وصيّي ” ، تفسير فرات : 301 / 306 وص 299 / 404 عن جعفر بن محمّد بن أحمد بن يوسف ، مجمع البيان : 7 / 322 عن البراء بن عازب وكلاهما نحوه ، بحار الأنوار : 38 / 223 / 24 وراجع السيرة الحلبيّة : 1 / 285 وتفسير القمّي : 2 / 124 والإرشاد : 1 / 48 .
( 8 ) علل الشرائع : 170 / 2 عن عبد الله بن الحارث بن نوفل وراجع كنز العمّال : 13 / 114 / 36371 .
( 9 ) شرح نهج البلاغة : 13 / 244 .
( 10 ) الجَذَع : من أسنان الدوابّ ؛ وهو ما كان شابّاً فتيّاً ( النهاية : 1 / 250 ) .
( 11 ) الفَرَق : مكيال يسع ستة عشر رِطلا ؛ وهي اثنا عشر مُدّاً ( النهاية : 3 / 437 ) .
( 12 ) الإرشاد : 1 / 48 ، كشف اليقين : 47 / 25 ، إعلام الورى : 1 / 322 ؛ السيرة الحلبيّة : 1 / 286 .
المصدر: موسوعة الإمام علي(ع) في الكتاب والسنة والتاريخ / الشيخ محمد الريشهري