وكالة أنباء الحوزة - قد يتصور البعض أن الدعاء مجرد ألفاظ ومفردات قد يسميها البعض أذكارا فيحرك بها الانسان لسانه ليحصل على الثواب الذي يرجوه من خالقه، إلا أنه وبهذا المعنى قد يكون ومضة بسيطة ينظرها الفرد إلى تلك الأدعية المأثورة، غافلا الجزء الأهم من معناه الذي يمثل حقيقة الدعاء بالمعنى الذي شرعه الله تعالى فهو الدعوة الشاملة إلى تأسيس منهج صحيح لحياة أفضل، بذكر مفردات تغزو باحة العقل الباطن لينهض الإنسان بزخم روحي بعد تواصله بخالق الكون مستمدًا منه كل ما يستقيم به وجوده، ومن هنا لابد للإنسان من معرفة حقيقة الدعاء.
الدعاء لغة:
إن مصدر دَعَا الثلاثي دعوةً ودعاءً[1]، وجاء في معجم مقاييس اللغة :"أن الدال والعين والحرف المعتل أصلٌ واحد، هو أن تميل الشَّيءَ إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك تقول: دعوت وأدعُو دعاءً"[2]، وفي الصحاح "الدُعَاءُ : واحد الأَدْعِيَةِ، وأصله دُعَاوٌ، لأنَّه من دَعَوْتُ إلاّ أنّ الواو لمّا جاءت بعد الاَلف هُمزت"[3] وفي اساس البلاغة : "دعوْتُ فلاناً وبفلان : ناديته وصحت به"، وفي لسان العرب "دَعا الرجلَ دَعْواً ودُعاءً، ناداه، ودَعَوْت فلاناً أي صِحْت به واسْتَدْعَيتُه "، يتبين مما تقدم يتبين أن من معاني لفظ (دعا- يدعو) النداء ومنه قوله تعالى: ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ﴾، ندعو أي ننادي ويشير الراغب في مفرداته إلى إمكانية استعمال الدعاء والنداء كل منهما مكان الآخر بقوله: "وقد يُسْتَعمَلُ كلُّ واحدٍ منهما موضع الآخر"[4]، كقوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾، ولعل ما جوز أن يكون الدعاء بمعني النداء هو تصدّر أغلب الدعاء بأداة النداء ظاهرة أو مقدّرة فضلاً عما يشترك به معنيا الدعاء والنداء في "أن تميل الشيءَ إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك "[5] ، وهذا ما جعل النداء بمعني الدعاء والعكس صحيح.
وهناك آيات كثيرة تحمل هذا المعنى، وتوجد دلالات لغوية تتفرع عن الاشتقاق اللغوي لكلمة الدعاء تعطي ظلالاً لمعان أخرى؛ لذا فإننا نلتمس من استعمال العرب لهذا اللفظ - حقيقة ومجازا - أصالة الكلمة وانتماءها إلى فصيح كلامهم واستعمالها في أكثر نشاطهم اللغوية فمن دلالاتها:
الاستغاثة، ففي قوله تعالى : ﴿وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾[الإسراء52]، أي استغيثوا بهم، ومنه "دعاء الجاهلية ودعوى الجاهلية " ويرى ابن قتيبة أيضاً أن معنى الدعاء هاهنا الاستغاثة[6].
الطلب، يقال: دعاه، أي طلبه، قال تعالى: ﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا﴾ [فاطر18]، أي تطلب أن يحمل عنها بعض ما أثقلها[7] .
القول، قال تعالى:﴿ {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ﴾[ يونس10 ]، أي قولهم في الجنة أذا اشتهوا الطعام سبحانك اللهم.
العبادة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[الأعراف 194]، أي الذين تعبدون[8].
الحثّ على الشيء، قال تعالى:﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ [نوح5]، أي حثثتهم على عبادة الله سبحانه[9]
النسبة، قال تعالى: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ﴾[الأحزاب5]، أي انسبوهم واعزوهم.
السؤال، قال تعالى: ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ [البقرة68] أي سله.
العذاب والعقاب[10]، قال تعالى:﴿نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى﴾ [المعارج 17[.
ويستعمل استعمال التسمية نحو دعوت أبني زيدا أي سمّيتُهُ[11]، ومنه قوله تعالى:﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضا﴾[النور63[
الهداية، قال تعالى: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾[الرعد14]، وجاء في لسان العرب: "وفي كتابه (صلى الله عليه واله) إلى الملك هرقل: أَدْعُوكَ بِدِعَاية الإسلام أي بِدَعْوَتهِ".
الدعاء اصطلاحا:
قد يكون تحديد مصطلح جامع ومانع للدعاء أمراً مستصعباً على الباحث ؛ لأن الدعاء ظاهرةٌ حية ومتجددة بتجدد أحوال الإنسان تجاه خالقه في حاجاته ومشاعره إلا أنه يمكننا أن نلتمس تعريفا له بما تيسر من مفهوم يشرف بنا على حدود الدعاء[12].
وعليه فقد عُرِّف الدعاء بأنه "طلب الاَدنى للفعل من الاَعلى: على جهة الخضوع والاستكانة "[13]. وقال الفخر الرازي: " وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جلَّ جلاله: طلب العناية منه، واستمداده إياه المعونة".
ويقال أيضا: "دعوتُ الله أدعوهُ دعاءً: ابتهلتُ إليه بالسؤال، ورغبتُ فيما عنده من الخير"، ولمعنى الدعاء أوجهٌ ينقلها ابن منظور عن أبي اسحاق فيقول: "وقال أبو أسحاق في قوله : ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة186]، ولمعنى الدعاء ثلاثة أوجه : "فضربٌ منها توحيدهُ والثناءُ عليه كقولك : يا الله يا لا إله، وكقولك : ربَّنا لكَ الحمدُ ،إذا قُلْتَه فقد دعَوْته بقولك ربَّنا...والضرب الثاني مسأَلةُ الله العفوَ والرحمة وما يُقَرِّب منه كقولك : اللهم اغفر لنا، والضرب الثالث مسأَلة الحَظِّ من الدنيا كقولك : اللهم ارزقني مالاً وولداً، وإنما سمي هذا جميعه دعاء لأن الانسان يُصَدّر في هذه الأشياء بقوله يا الله يا ربّ يا رحمنُ، فلذلك سُميَّ دعاء "، والعلامة المجلسي يصنف الأدعية المأثورة على نوعين :
الاَوراد والاَذكار الموظفة المقررة في كلِّ يوم وليلة المشتملة على تجديد العقائد وطلب المقاصد والاَرزاق ودفع كيد الاَعداء ونحو ذلك، وينبغي للمرء أن يجتهد في حضور القلب والتوجه والتضرع عند قراءتها.
المناجاة، وهي الاَدعية المشتملة على صنوف الكلام في التوبة والاستغاثة والاعتذار وإظهار الحب والتذلل والانكسار، وظني أنه لا ينبغي أن تقرأ إلاّ مع البكاء والتضرع والخشوع التام، وينبغي أن تترصد الاَوقات لها.
ومن الادعية ما يناسب حالة الخوف ، وبعضها حالة الرجاء ، وبعضها لرفع البلاء ، وبعضها للرخاء الى غير ذلك من الاحوال المختلفة التي ترد على الانسان ، فينبغي أ يقرأ في كل حالة ما يناسبها من الادعية.
فحقيقة الدعاء إذاً "هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة والارتباط بعالم لا مبدأ له ولانهاية ولا حد ولا غاية لسعة رحمته وقدرته وإحاطته بجميع ما سواه فوق ما نعقل من معني السعة والاحاطة والقدرة يقضي له حوائجه بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الداعي جميع وسائل نجح طلباته "[14] وعلى هذا الاساس فإنَّ الإنسان يكون داعياً في كل لحظاته في حركته وسكونه في يقظته وغفلته في كلامه وصمته وفي همساته وإشاراته وليس في ذلك مبالغة؛ لأن الداعي إلى الدعاء هو الافتقار والحاجة وافتقار الإنسان يغمره فطرةً وطبعاً إلى من يغلق عليه أبواب حاجته ويفيض عليه من فضل رحمته التي لا نفاد لها ولا زوال، لذلك فإن " حقيقة الدعاء يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة " [15]، وعليه فإن الفطرة أساس الدعاء لأنها ملازمة للافتقار وحينها يكون الدعاء توجّهاً صادقا من الأدنى إلى الأعلى فيكون ذلك " طلب الفعل مع التسفّل والخضوع "، ومما تقدم نجد أنَّ المعنيين– اللغوي والاصطلاحي – متوافقان لمادة الدعاء من حيث دلالتهما على الطلب.
-الدعاء في الاحاديث الشريفة:
أما الروايات، فقد ورد فيها ما لا يحصى فمنها ما ورد عن النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) قوله: "ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر ارزاقكم ، قالوا بلى يا رسول الله ،قال تدعون ربكم بالليل والنهار فإن الدعاء سلاح المؤمنين " [16] ، ومنها ما ورد عن الامام علي (عليه السلام) قوله:" أحب الاعمال الى الله سبحانه في الارض الدعاء وأفضل العبادة العفاف " [17].
م.م ناصر عبد سلمان
[1] ينظر تهذيب اللغة : 3/120
[2] 2/279
[3] الصحاح : 6 / 2337
[4] المفردات في غريب القرآن:1/226
[5] معجم مقاييس اللغة 2/279
[6] غريب القرآن ، ابن قتيبة / 43
[7] ينظر: الأنباء بما في كلمات القرآن من أضواء ، القسم الثاني / 271
[8] ينظر: لسان العرب 14 / 257
[9] ينظر: الأنباء بما في كلمات القرآن من أضواء ، القسم الثاني / 273
[10] المصدر نفسه / 273
[11] ينظر: المفردات في غريب القرآن : 1/ 226
[12] ينظر: الدعاء المعاني والصّيغ والأنواع / 12
[13] عدة الداعي: 12
[14] مواهب الرحمن في تفسير القرآن: 3 / 70
[15] الدعاء المعاني والصّيغ والانواع :14
[16] ينظر: الدعاء المعاني والصّيغ والانواع: 14
[17] فلاح السائل: 27