وكالة أنباء الحوزة - وفيما يلي النص الكامل لبيان سماحته:
تمر علينا في هذه الأيام ذكرى شهادة سابع أئمة الهدى حَلِيفِ السَّجْدَةِ الطَّوِيلَةِ والدُّمُوعِ الْغَزِيرَةِ والْمُنَاجَاةِ الْكَثِيرَةِ، الامام موسى الكاظم (ع) الذي عاش الابتلاء، فقضى شهيدا مسموماً في سجن السِّنْدِيِّ بْنِ شَاهَك ونُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا إِمَامُ الرَّافِضَة.
ونحن اليوم نعيش واحدة من الابتلاءات التي عمّت البلاد والعباد، في مشارق الأرض ومغاربها، وأصابت بالوباء القاتل فيمن أصابت البرّ والفاجر، المؤمن والفاسق والكافر، التقي والشقي، فتعطلت أمور الحياة المادية، وتأثرت النشاطات والعبادات الروحية، بإغلاق بيت الله الحرام، ومسجد الرسول (ص)، والمراقد المقدسة للأئمة الطاهرين في معظم البلدان، ووقف جميع بني الانسان، مقرين بالقصور والعجز عن معالجة هذا الوباء، بما ضاعف ويضاعف ولا يزال، أعداد المصابين في كل مكان منذرا بأشد الاخطار.
ولو تنبّه العاقل النبيه، وتأمّل المؤمن الفَطِن، الى ما تعيشه البشرية في زماننا، مما هو جارٍ في سلوكها واعمالها من تمرد على القيم والتعاليم الإلهية، وطغيان وفجور وظلم وفساد في الحياة العملية، بما لا يدع مجالا للشك في الاعتقاد بأن ذلك يُعد واحدة من مصاديق قوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41 الروم)
لأدرك بما لا يقبل الشك، أن ذلك ما هو إلا نتيجة حتمية، لسنّة كونية، جرت في الأمم السابقة، ويمكنها أن تجري في أي زمان ومكان، وهو ما حذّرنا منه النبي (ص) بما نقله الامام الباقر (ع) كما ورد في الكافي الشريف، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) خَمْسٌ إِنْ أَدْرَكْتُمُوهُنَّ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْهُنَّ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوهَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُون والْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا... الخ الحديث. فما أكثر الفواحش الظاهرة في زماننا على جميع الأصعدة، وهذا الوباء واحدة مما لم يعرفه الذين مضوا.
لذا فإن نصيحتي لعموم المؤمنين والمؤمنات، وخاصة لمن يتصدى لتوجيه الناس وإرشادهم في أمور دينهم ودنياهم، في هذه المحنة الناتجة عن هذا الابتلاء الكبير، ولكي يخلصوا مما هم فيه، بأن يلتفتوا الى الأمور التالية:
أولا: توعية الناس الى عدم الخلط في الأمور بين المفاهيم العقائدية، والأمور التكليفية المادية لأن في الخلط بينهما تَيها وضَياعا، بين من صار يطعن بما نعتقده في أئمتنا عليهم السلام تأثرا بما يقوله المرجفون من الاعداء، وبين من يُهمل فلا يراعي التكاليف العملية بضرورة التوقي والحذر بلزوم تحصين الأنفس والأماكن العامة وحتى المساجد والمراقد المقدسة من كل ما يسبب انتقال العدوى والمرض.
وكلاهما مبتعد عن الجادة القويم، لأن أئمتنا عليهم السلام رسموا لنا الطريق، فنبهونا لعدم الخلط بين الامرين، وهو ما نفهمه وندركه مما علّمه أمير المؤمنين (ع) في دعاء لأحد أصحابه وهو نوف البكالي ورد في احدى فقراته الأخيرة (وَ لَا تَجْعَلْنِي يَا إِلَهِي مِمَّنْ يَعْبُدُ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى)، وكانت وصيتهم لنا بالدعاء وبالتوسل الى الله تعالى بهم من جهة، ووجهونا نحو الأخذ بالأسباب من جهة أخرى.
وهذا ما ينطبق في واقعنا اليوم على حقيقة فهمنا واعتقادنا في أئمتنا عليهم السلام، فلا شك من الناحية العقائدية في أنهم هم باب الله الذي منه يؤتى، وأنهم الوسيلة اليه، وهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون، وأن لهم قدسية منحهم الله تعالى إياها و لهم عنده مرتبة عظيمة لم يصلها احد قبلهم ولن يصلها أحد بعدهم، وبهم يستجاب الدعاء، إلا أن هذا الاعتقاد لا يسقط التكاليف الشرعية الموجهة الى المكلفين المرتبطة بالأمور المادية الخارجية كل في موقعه، فإن كانت مراقد المعصومين عليهم السلام ملحقة من الناحية الفقهية بالمساجد، لناحية الوجوب المتعين على كل مكلف من موقعه بلزوم الحفاظ على طهارتها وعدم جواز تنجيسها، بل وجوب المبادرة فورا الى إزالة أية نجاسة مادية خبثية طارئة عليها قبل أداء الصلاة، وبالتالي فمن باب أولى يكون الواجب المتعين على المتمكنين والقيّمين إزالةُ كل خطر يتهدد حياة المؤمنين أو ما يسببه بشكل راجح كانتقال الوباء ، وليس ذلك منحصرا في المساجد أو المراقد بل وحتى في الأسواق، أو الأماكن العامة، أو غير ذلك من الأماكن التي يمكن ان يكون احتمال نقل العدوى فيه احتمالا عقلائيا راجحا.
وبالنتيجة فلا يصح في مورد العمل الخلط بين عقيدتنا بأئمتنا، وبين الواجب التكليفي بالعمل على حفظ الأنفس، إذ أن حفظ النفس مقدم على وجوب إزالة النجاسة المادية من المساجد والمراقد المشرفة، بل أن من يتسبب في هلاك مؤمن فهو ضامن من الناحية الشرعية. وإن حصل ذلك منه على نحو الاستهتار وعدم المبالاة أو نتيجة خلط بين الأمور، فهو حينئذ من مصاديق الجاهل غير المعذور ممن ينطبق عليه قوله تعالى: الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ( الكهف 104)
ثانيا: اللجوء الى الله تعالى من خلال الاستغفار والتوبة والدعاء كما قال الله تعالى في كتابه الكريم (ويا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ولا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمينَ (52 هود). وكما قال عزوجل (وإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنِّي فَإِنِّي قَريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجيبُوا لي ولْيُؤْمِنُوا بي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة 186)
وكما ورد عن النَّبِيُّ (ص) (رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً طَلَبَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ حَاجَتَهُ وَ أَلَحَّ فِي الدُّعَاءِ، اسْتُجِيبَ لَهُ أَمْ لَمْ يُسْتَجَبْ وَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) و قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) (ادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ، مَا الْمُبْتَلَى الَّذِي قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْبَلَاءُ بِأَحْوَجَ إِلَى الدُّعَاءِ مِنَ الْمُعَافَى الَّذِي لَا يَأْمَنُ الْبَلَاء) وفي حديث قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) زين العابدين (إِنَّ الدُّعَاءَ وَ الْبَلَاءَ لَيَتَرَافَقَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ الدُّعَاءَ لَيَرُدُّ الْبَلَاءَ وَ قَدْ أُبْرِمَ إِبْرَاماً)، وقال الامام الصادق (ع) (الدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ بَعْدَ مَا أُبْرِمَ إِبْرَاماً فَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ رَحْمَةٍ وَ نَجَاحُ كُلِّ حَاجَةٍ وَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَ إِنَّهُ لَيْسَ بَابٌ يُكْثَرُ قَرْعُهُ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِب) وعن الامام الرضا (ع) (إِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ مَا قَدْ قُدِّرَ وَ مَا لَمْ يُقَدَّرْ قُلْتُ وَ مَا قَدْ قُدِّرَ عَرَفْتُهُ فَمَا لَمْ يُقَدَّرْ قَالَ حَتَّى لَا يَكُون).
ومن خلال التوسل بالمعصومين عليهم السلام، كما ورد عن رسول الله (ص) (وَ بِنَا يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ وَ يُدْفَعُ الْبَلَاء)، وورد عَنْ الامام أَبِي جَعْفَرٍ الباقر ( ع) قَالَ: مَنْ دَعَا اللَّهَ بِنَا أَفْلَحَ وَ مَنْ دَعَاهُ بِغَيْرِنَا هَلَكَ وَ اسْتَهْلَكَ، وينقل دَاوُد الرَّقِّيِّ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) أَكْثَرُ مَا يُلِحُّ بِهِ فِي الدُّعَاءِ عَلَى اللَّهِ بِحَقِّ الْخَمْسَةِ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ وَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَن وَ الْحُسَيْنَ ع.
ثالثا: الاطلاع على وصية الامام الكاظم (ع) - ونحن في ذكرى شهادته - لهشام بن الحكم ، فهي من أفضل ما يمكن أن يستفيد منه المؤمنون في مثل هذه الأيام التي تكثر فيها الفتن، وفيها الكثير من الأمور المهمة التي يمكن العمل على بيانها للناس، وترسيخ مضامينها، وهي التي وردت في الحديث الثاني عشر من الجزء الأول من الكافي الشريف حيث قال عليه السلام في مطلعها: يَا هِشَامُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى بَشَّرَ أَهْلَ الْعَقْلِ وَ الْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْباب.. ويقول فيها : يَا هِشَامُ إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَ حُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الْأَنْبِيَاءُ وَ الْأَئِمَّةُ ع.. ..ثم يقول (ع) ِ يَا هِشَامُ قَلِيلُ الْعَمَلِ مِنَ الْعَالِمِ مَقْبُولٌ مُضَاعَفٌ، وَ كَثِيرُ الْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى وَ الْجَهْلِ مَرْدُودٌ..
أخيرا .. ندعوا الله تعالى العلي القدير بحق من نعيش هذه الأيام ذكرى شهادته وبما له من الشأن العظيم، الامام موسى الكاظم عليه السلام، أن يرفع هذه الغمة عن هذه الأمة، ويصلح ما فسد من أمور المسلمين، إنه على كل شيء قدير.