وكالة أنباء الحوزة ــ لنبدأ أولاً بتلخيص الحكاية:
يقول النص: ان هوداً ارسل الى قومه عاد. وهم اخوته في النسب. وطالبهم بالايمان بالله، والتوبة من ذنوبهم، واعداً اياهم ان السماء سترسل عليهم المطر متتابعاً.
وكانت أرضهم ـ كما تقول النصوص المفسّرة ـ قد أجدبت. كما وعدهم هود بانّ السماء ستمدهم بالقوة أعداداً وأموالاً وأبداناً في حالة توبتهم من الذنوب.
إلا انّ القوم لم تنفعهم هذه النصيحة الصادقة. فبدأوا يعترضون عليه بحجج واهية، ومطالبين اياه بتقديم شاهد على صدق رسالته، مؤكدين عليه انهم سوف لن يتركوا عبادة الأصنام. وذهبوا الى ابعد من ذلك، حتى وصل الأمر الى انهم إتهموه بالجنون، والى ان أصنامهم هي التي عاقبته، فجعلته مخبولاً، ما دام قد شتمها وانكر مشروعية عبادتها.
وقد اجابهم هود على هذه التهمة البليدة، بانه يُشهد الله على براءته مما نسب اليه، متحدياً اياهم بأن يعملوا واصنامهم ما يشاؤون من التآمر عليه، وإلى ان الله يمتلك ناصية الكائنات بأكملها، فليعملوا ما يشاؤون، وليركبوا رؤوسهم، فان الله سوف ينتقم منهم، ويبيدهم باجمعهم، ويستخلف قوماً آخرين.
وفعلاً أبادهم الله، وانجى هوداً ومن معه من المؤمنين.
وهذا هو العقاب الدنيوي لهم.
وأيضاً ينتظرهم العقاب الآخروي يوم القيامة، جزاء موقفهم هذا.
من هذا التلخيص للحكاية: نتعرف على جملة امور:
منها: إن هؤلاء القوم بلغ من تمسكهم بالأصنام الى الدرجة التي اعتقدوا فيها أن اصنامهم اصابت هوداً بالسوء، لانه تعرض لها بالشتم والإنكار.
ان هذا النمط من التمسك بالآلهة الخرافية، يكشف عن مدى التخلف الذهني لهؤلاء القوم، ومن ثم مدى العناد الذي يطبع سلوكهم.
ومنها: انّ السماء قطعت لهم وعداً ـ على لسان هود ـ أن ترسل عليهم المطر، وتخصب أرضهم التي كانت تشكو الجدب، وان تمدهم بأسباب القوة في أجسادهم وأموالهم وشتى مجالات حياتهم...
لكنهم مع ذلك رفضوا هذا العرض وتمسكوا بعنادهم المذكور.
ومنها: انّ السماء ـ نتيجةً لموقفهم المنكر ـ أبادتهم في نهاية المطاف، وتوعدتهم بالعقاب الآخروي أيضاً.
إذن: الأقصوصة تتتحدث عن عرض سخي قدمته السماء: لكنه رفض من قبل هؤلاء القوم. وتتحدث عن موقف بالغ الإلتواء من حيث التمسك بالأصنام بنحوٍ جعلهم يرفضون عطاء السماء ويفضلون العطاء الوهمي لأصنامهم. ثم كانت النتيجة: أنّهم خسروا الدنيا ـ بما فيها من الأصنام التي لم تستطع ان تمنع العذاب عنهم، فلاً عن انهم خسروا الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المقبل.
وأخيراً، فإن الاقصوصة تتحدث عن ان النجاة ستكون من نصيب صاحب الرسالة، ومن آمن معه: من حيث المصير الدنيوي.
إنّ هذه الدلالات التي استخلصناها من الأقصوصة، تمثل الخطوط المشتركة لكل الأقاصيص التي وردت في سورة هود: مع ملاحظة ان كل قصة تطرح انماطاً مختلفة من الذهنيات التي تطبع القوم الكافرين، لكنها متماثلة من حيث الطابع العام للذهنية.
ويمكننا ملاحظة هذه الدلالات المتماثلة من خلال الأسلوب الذي صيغت الأقاصيص به.
فقد بدأت كل قصة بعرض نمط الذهنية المتخلفة لدى هؤلاء الاقوام. فقوم هود قالوا له: ان اصنامهم قد مسّت هوداً بسوء. وقوم صالح قالوا له: انهم كانوا يرجون منه ان يكون على عقليتهم، لا أن ينهاهم عن عبادة الأصنام.
وقوم شعيب قالوا له: لا نفقه كلامك ... الخ.
ثم جاء اسلوب العقاب متماثلاً لدى الجميع، وجاء التعقيب على ذلك، متماثلاً بدوره. وجاء إنقاذ المؤمنين متماثلاً أيضاً.
ففي قصة نوح اشار النص الى عقاب الكافرين وانقاذ المؤمنين بقوله: (حتى اذا جاء أمرنا.. قلنا: إحمل فيها).
وفي قصة هود: (ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه).
وفي قصة صالح: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه).
وفي قصة شعيب: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه).
اذن: الأقاصيص صيغت بأسلوب واحد من حيث الاشارة الى مجيء الأمر وانقاذ الرسول ومن معه.
كما جاء التعقيب عليها واحداُ. ففي قصة هود، جاء التعقيب كما يلي: (ألا بعداً لعاد قوم هود)
وفي قصة صالح: (ألا بعداً لثمود).
وفي قصة شعيب: (ألا بعداُ لمدين).
ان كل هذه التعقبات تدلنا على ان الأقاصيص في هذه السورة خاضعة لنسق واحد من حيث تماثل الذهنية لدى الكافرين، وتماثل العقاب، وتماثل الانقاذ، وتماثل الضلال لدى المتمردين.
بيد انه ينبغي ان نشير إلى ان كل أقصوصة، قد تميزت باحداث ومواقف متفردة في الآن ذاته. كما كان هناك تناسق بين مجموعة من الاقاصيص وبين سواها. فهود وصالح وشعيب تتناسق من حيث المواقف والمصائر والتعقيب عليها.
أما نوح وإبراهيم ولوط، فكل منها متميزٌ عن الآخر، ومتميز عن اقاصيص هود وصالح وشعيب.
والحق، ان إبراز امثله هذا التناسق والتميز في الآن ذاته، يتطلب معالجة كبيرة لا يستطيع ان يستكنه اسرارها الفنية إلاّ متذوق خاص يمتلك قدرات فنيه من الصعب توافرها إلا لدى الخاصة من المتلقين.
درسات فنية في قصص القُرآن / الدكتور محمود البستاني