وكالة أنباء الحوزة _ سورة لقمان قال تعالى : (و لو أن ما في الارض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه ان اللّه عزيز حكيم ) .
في هذه الاية الكريمة تلاحظ نمطين من الصورة ، الاول منها هو ما نسميه ب (الصورة الفرضية )، أي الصورة التي تفترض شيئا لم يحدث ، و النمط الاخر هو الصورة (الاستعارية ).
الصورة الاولى هي (و لو أنما في الارض من شجرة أقلام ، و البحر يمده لسبعة أبحر)،و الصورة الثانية هي (ما نفدت كلمات اللّه ). و من الطبيعي ، أن النص أو الصورة عندماتنشطر الى قسمين أو أكثر من الصور المتنوعة ، حينئذ تكتسب جمالية فائقة .
و المهم أن نحدثك عن هذه الصورة العامة أو الكلية أو الموحدة ، و نحدثك عن الصور التفريعية لها.
أما الصورة العامة فتقرر حقيقة تفترض بأن الارض بما فيها من شجر، و البحر بماتمده سبعة أبحر، لو قدر لها بأن نكتب كلمات اللّه تعالى ، لما نفدت الكلمات المذكورة .
و أما الصورة التفريعية فهي : افتراض أن الشجر أقلام ، و أن البحر تمده سبعة أبحر،وعدم نفاد كلمات اللّه تعالى .
و نتحدث عن الصورة الاولى .
الصورة تقول (و لو أن ما في الارض من شجرة أقلام ).
ان هذه الصورة صورة فرضية كما قلنا، بمعنى أنها تفترض بأن الارض ، بما فيها من شجر، لو قدر لها بأن تكون أقلاما، لما نفدت كلمات اللّه . و من الطبيعي أن هذا الافتراض يستند الى (الواقع ) و ليس الى ما هو محال ، لان كلمات اللّه تعالى غير متناهية ، وتبعالذلك لا تنفد هذه الكلمات من خلال استخدام الشجر أقلاما لكتابة الكلمات المذكورة . وبهذا يتضح لك الفارق بين صورة (فرضية ) لا تستند الى الواقع كما هو طابع النتاج الفني لذى البشر، و بين (فرضية ) تستند الى الواقع كما هو سمة القرآن الكريم في صوره الفنية .
يبقى أن نحدد الاسرار الجمالية لامثلة هذه الصورة فنقول : لقد كان بالامكان أن يستخدم القرآن الكريم صورة استعارية أو تشبيهية أو رمزية للتعبير عن هذه الدلالة ،أي عدم نفاد كلمات اللّه تعالى ، و لكنه استخدم الصورة الفرضية ، فما هو السر في ذلك ؟في تصورنا أو تذوقنا الفني أن الصورة الفرضية بالنسبة الى المتلقي تحدد له الدلالة المقصودة بشكل أشد وضوحا من غيرها، سر ذلك ، أن الفرضية تصوغ له هذا الواقع أو ذاك من خلال جعله واقعا أشد نصوعا و وضوحا من الواقع الذي يحياه . فنحن نعرف أن عطأالل ه تعالى لا حدود له ، و أن الواقع الذي نحياه لم يخبر تجارب احصائية لعطأاللّه تعالى . لكن من خلال الصورة الفرضية نواجه واقعا احصائيا غير متناه بطبيعة الحال ، لان الصورة تقول بوضوح بأن الشجر لو كان أقلاما لما نفدت كلماته تعالى ، و هذاهو الواقع بعينه ، لان الشجر مهما بلغ عدده المتناهي لا يمكن أن يحصي كلمات اللّه تعالى غير المتناهية .
و هذا كله من خلال علاقة الصورة المتقدمة بما هو واقعي من التجارب الكونية .
أما من حيث انتقأ المفردات المرتبطة بالشجر، و بالاقلام ، و من ثم بالبحر، و سبعة أبحر، و عدم نفاد الكلمات ، فأمر نحاول بنحو مجمل أن نعرض له .
ان أبرز ما يلفت نظرنا في هذه الصورة الفرضية هو أنها تنطوي على صورتين متداخلتين أو مزدوجتين ، هما : الصورة الفرضية بعامة ، و الصورة التمثيلية المتجسدة في أن الشجر أقلام ، فعندما نقول (الشجر اقلام ) نكون أمام صورة تمثيلية ، بصفة أن الصورة التمثيلية هي احداث علاقته بين شيئين ، يكون أحدهما تجسيدا و تعريفا و تمثيلا للاخر،فتكون (الاقلام ) تجسيدا و تمثيلا للشجر.
و أما كون هذه الصورة (فرضية ) فلانها مسبوقة بالاداة (لو).
و المهم أن تداخل أو ازدواج الصورتين أضفى جمالية مضاعفة على العنصرالصوري ، نظرا لما سبق أن أشرنا اليه من أن الصورة الفرضية هي صورة (واقعية ) بالرغم من كونها تقوم على الافتراض للشي ء، و نظرا لانها عملية تمثيل شي ء لشي ء آخر، بحيث جاءت العلاقة بين الشجرة و الاقلام على نحو العلاقة التشبيهية أو الاستعارية بينهما،كل ما في الامر، أن التشبيه يرصد علاقة الشبه ، و الاستعارة ترصد علاقة اعارة صفة لصفة أخرى ، و التمثيل يرصد علاقة تجسيد صفة لاخرى .
و اذا اتجاوزنا هذا الجانب ، نلاحظ أن مفردات الصورة ، أي انتخاب الاقلام و الشجرو البحر تنطوي على أسرار مدهشة في ميدان التعبير الجمالي . فالعلاقة بين الشجروالاقلام تت ضح جماليتها تماما، اذا أخذنا بنظر الاعتبار كلا من المظهرين :خارجياوداخليا، أما خارجيا، فان الشجر و الاقلام يتماثلان في المظهر الفيزيقي لهما، ويتماثلان في المادة التي يتألفان منها أيضا، فالاقلام تتجسد في الشجر، بخاصة أن النص يتحد ث عن بيئة تاريخية خبرت هذه التجربة ، كما أنها تتماثل مع الشجر في استطالة شكلهما.
بيد أن الاهم من ذلك كله ، هو التماثل بين المضمونين أو المظهرين الداخلين لهما،أي الشجر و الاقلام ، فالشجرة كما نعرف جميعا تستمد حياتها من الماء و هو سائل ، والاقلام تستمد كتابتها من السوائل بدورها، و هذا التماثل بين مادتي الشجر و الاقلام له امتاعه و جماله و طرافته الفنية ، يضاف الى ذلك ، أن الصورة الثانية المتفرعة من الصورة الاولى ، و نعني بها صورة (و البحر يمده من بعده سبعة أبحر) تعبر عن الحقيقة المذكورة ،وهي التماثل في المواد السائلة . اذن : لنتحدث عن هذه الصورة التفريعية .
الصورة تقول (و البحر يمده من بعده سبعة أبحر)، لنلاحظ أولا، أن النص قد انتخب ظاهرة (البحر) و لم ينتخب مجرد المأ. بل يمكن القول : ان النص كان بمقدوره أن يكتفي مثلا بعبارة (و لو أن ما في الارض من شجرة أقلام )، حيث ان القاري ء بمقدوره أن يربطبين الشجرة و الاقلام ، و يستنتج أو يستخلص العلاقة بينهما، بصفة أن الشجرة تعتمد المأ، و الاقلام تعتمد البحر، و كلاهما سائل . الا أن النص قد انتخب ظاهرة البحرلنكتة فنية ممتعة و عميقة و مثيرة . بل كما سبق القول ان النص لم ينتخب مجرد المأليربط بين مادتي الشجر و الاقلام ، بل نجده قد انتخب ظاهرة (البحر) المتميزة بغزارة المأ.
و السؤال هو : لماذا تم مثل هذه الانتخاب ، سواء كان المقصود من البحر هو البحر في الاستخدام اللغوي المعاصر له ، أم كان المقصود منه النهر، ففي الحالين فان الرمزين (البحرو النهر) يتميزان بغزارة مياههما؟ ثم : لماذا لم يكتف النص مثلا بالاشارة الى البحر دون اردافه بسبعة أبحر، أي لماذاقال أولا (والبحر) ثم أردف ذلك بقوله : ان هذا البحر محدود بسبعة أبحر؟ ان اثارة مثل هذاالسؤال ينطوي على أهمية فنية كبيرة ، بخاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الصورة الثالثة ، وهي قوله تعالى (ما نفدت كلمات اللّه ) ستظل على صلة وثيقة باثارة السؤال السابق ، و هذاأمر يتطلب منا شيئا من التفصيل في الحديث عنه .
الصورة التي نحدثك عنها الان هي (و البحر يمده من بعده سبعة أبحر)، فالصورة العامة كما لاحظت تقرر بأنه لو كان جميع الشجر في الارض أقلاما، و كانت تستمدمادتها من بحر ممدود بسبعة مثله ، لما نفدت كلمات الل ه تعالى . ان كون الشجرأقلاما، قد اتضح سره الفني .
و أما كون البحر يمده من بعده سبعة أبحر، و كون البحر مدادا، و تمده أبحر سبع مثله ،فيمكن توضيحه على النحو الاتي : أننا لو انسقنا مع التفسير الذاهب الى أنه لو كان البحرمدادا و تمده أبحر سبع مثله لكنا أمام صورة فرضية مستقلة ثانية مقابل الصورة الفرضية الاولى (أي لو كان شجر الارض أقلاما)، و حينئذ تكون الصورتان على هذا النحو : لو كان شجر الارض أقلاما، و لو كان البحر مدادا لما نفدت كلمات اللّه تعالى .
و أما لو انسقنا مع التفسير الذاهب الى أن تلكم الاقلام لو كانت تأخذ مادتها من بحرتمده أبحر سبع مثله ، لكنا أمام صورة تفريعية ، بمعنى أن الصورة البحرية تابعة أو مكملة لصورة الاقلام .
و في الحالتين ، فان الدلالة التي ترمز اليها الصورة الكلية تظل متوافقة في أسرارهاالفنية .
انك لتلاحظ أن البحر يتميز بكونه غزير المياه ، كما تلاحظ بأن الشجر يتميز بكونه غزير النبات ينتشر في الارض جميعا، و حينئذ سوأ كان المقصود من البحر مدادا أم كان المقصود مادة للاقلام ، فالنتيجة هي أن غزارة مائه لا تكفي للتعبير عن كلمات اللّه تعالى .لكننا، لا نزال نحوم على الدلالة الاجمالية لهذا الرمز (أي البحر) دون أن ندلف الى تفصيلاته أو الى تحديد خطوطه الرمزية .
ان الانتخاب لظاهرة (البحر) ذاتها، ينطوي على سر، كما أن ارداف هذه الصورة بصورة البحور السبعة ينطوي على سر آخر.
البحر كما قلنا يتميز بكونه أولا مادة سائلة تتناسب مع عملية الكتابة . ثانيايتميزبكونه ذا مادة غزيرة غير قابلة للاحصاء أو الكيل .
يبقى أن تشير الى ظاهرة العدد و تحديده بسبعة أبحر.
ترى : ما هو سر ذلك ؟ اننا جميعا نلاحظ، أن العدد سوأ كان سبعة أو عشرة أوسبعين أو مائة ... الخ ، يظل تعبيرا عن كثرة الشي ء. و اذا كان النص القرآني الكريم ينتخب حينا مما هو السبعين مثلا كما في قوله تعالى (ان تستغفر لهم سبعين ... الخ ) و حينا ينتخب رقما هو السبعة كما في الصورة التي نتحدث عنها، فان هذا الاستخدام يخضع لجملة من النكات الفنية ، منها أن يتناسب العدد مع طبيعة ما طرحه النص القرآني الكريم ،فالاستغفار، و هو ممارسة تعبيرية ، يسهل على الشخص أن يتلو الالفاظ الدالة عليه عشرات المرات ، و لذلك جاء عدد السبعين متناسبا مع التلاوة المذكورة . و أما البحربخاصة فان استخدامه في دلالته الواسعة مما يتبادر الذهن اليه ، فعدده محدود، أي :البحار محدودة عددا، و لكنها غزيرة مياها، فغزارة البحر تتمثل في مياهه و ليس في عددالابحر.
و المهم ، أن محدودية العدد فرضت من الزاوية الفنية عددا محدودا هو قوله تعالى (يمده من بعده سبعة أبحر)، بحيث يتناسب عدد السبعة مع محدودية البحار. بيد أن السبعة ذاتها هنا هي تعبير عن أضخم رقم يستخدم ليرمز الى كثرة الشي ء، حيث ان التشبيه الشيء بماء البحر (و هو واحد عددا) يرمز الى ما هو غير متناه في الكثرة ، فكيف اذا جأالاستخدام هنا ليس في نطاق البحر الواحد، بل الابحر السبعة التي تمده .
اذن : أمكننا أن نتبين السر الفني للرقم المذكور. و من ثم يمكننا أن نتبين أيضا سرالصور بشطريها، أي الفرضية الذاهبة الى أنه لو كان شجر الارض أقلاما، و الفرضية الذاهبة الى أنه لو كان شجر الارض أقلاما، و الفرضية الذاهبة الى أنه لو كان البحر محدودابسبعة أبحر، و كان مادة للاقلام ، أو كان مدادا و تمده الابحر السبعة ، لما نفدت كلمات اللّه تعالى .
يبقى أن نشير الى الصورة الاستعارية أو الرمزية الاخيرة ، أي : صورة (لما نفدت كلمات اللّه )، و بما أننا حدثناك عن هذه الصورة (كلمات اللّه ) عند دراستنا لسورة الكهف ، فحينئذ لا ضرورة للحديث عنها جديدا بقدر ما ينبغي أن نشير الى دلالتها الرمزية عابرا، حيث يمكنك أن تستخلص دلالتها بوضوح حينما تربط بين الصورتين السابقتين (الاقلام و البحر)، و بين هذا الرمز (كلمات اللّه )، مادام قد اتضح لديك فرضية كون الشجرأقلاما و البحر مدادا أو مادة ، انما هي واردة في سياق المعطيات و القدرات غير المحدودة للّه تعالى ، بحيث ان التعبير عنها ب (كلمات اللّه )، و في مقدمتها التجانس بين الاقلام والمداد، و بين (الكلمات )، فالكلمات تكتب بالاقلام ، مما يكشف هذا عن أن انتخاب صورة (كلمات اللّه ) بدلا من الرموز الاخرى ، له دلالته الفنية الممتعة و المدهشة .
فضلا عن أن (الكلمات ) في حد ذاتها ترمز الى مطلق الدلالات ، لان الكلمة أواللفظة هي اشارة للمعاني ، فعندما ينتخب النص القرآني الكريم صورة (الكلمات )حينئذفان انتخاب هذه الصورة يقترن أولا بكون (الكلمة ) مطلقا رمزا و اشارة للمعاني ، وبكونها ثانيا ترمز من خلال غنى ايحاءاتها الى ما هو معطى ، و ليس مطلق الكلمات التي تجسد وعاء لمختلف الدلالات .
قال تعالى : (و اذا غشيهم موج كالظلل دعواللّه مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر فمنهم مقتصد و ما يجحد بياتنا الا كل ختار كفور) ((204)) نواجه في هذه الاية الكريمة ، تشبيها هو قوله تعالى (و اذا غشيهم موج كالظلل ).فهذا التشبيه يتناول راكبي السفن حينما تتعرض السفن الى الخطر بسبب هيجان البحر،حيث يدعون اللّه مخلصين ، و حيث ينقذهم اللّه تعالى من الخطر. و المهم هو : تشبيه الموج بالظلل ، فالظلة هي ما يستظل الانسان بها، و اذا كان المقصود منها هنا هو الغيوم أوالجبال ، حينئذ فان ملاحظة العلاقة بين طرفي الصورة أو التشبيه يكشف عن المنحنيات الجمالية لهذه الصورة .
ان النص كما هو واضح يتحدث عن هياج الموج .
و لابد أن يكون هيجانه من القوة بدرجة كبيرة ، كيف ذلك ؟ التشبيه ذاته يكشف عن ذلك ، فارتفاع الموج قد يتطاول كثيرا و قد لا يكون كذلك . و في الحالين ، قد يركب بعضه بعضا، و قد لا يكون كذلك ، الا أن الخطر يكمن في شدة الاضطراب للامواج ، بحيث يركب بعضها على بعض . و المهم بعد ذلك هو ملاحظة هذا التشبيه من حيث علاقته بالظلل دون غيرها. ان الظلل تجعل الذهن يتداعى الى ما يستظل به ، و الى ما ذكره المفسرون ما هوسحاب أو ما هو جبال . و في الحالات جميعا ثمة سمتان ، الاولى هي عملية الاستظلال ،والاخرى عملية تراكب الموج .
و نحن هنا نود أن نشير الى نكتة فنية لهذا التشبيه ، سواء كان المقصود منه السحاب أو الجبال ، و النكتة هي انتخاب النص لعبارة (الظلل ) دون غيرها، فقد كان بالمقدورأن يستخدم النص مشبها به آخر غير الظلل ، كما لو شبهه بالسحب أو بالجبال بلفظيهماالمذكورين ، لكن : لماذا لم يستخدم الالفاظ المذكورة ؟ في احتمالنا الفني ، بما أن النص في صدد التعريف بخطورة هياج الموج و ارتفاعه ، فحينئذ فان الموج حينما يستطيل ويرتفع بسبب شدته ، و السفينة حينما تضطرب بسبب ذلك ، فان انتخاب عبارة تحمل ايحاء بدلالة الظل مضافا الى دلالتها الاصلية تكون أكثر تناسبا مع شدة الموج واعتلائه مثلارؤوسهم ، مضافا الى سماته الاخرى المرتبطة بضخامة الحجم و غيره ، بالنحو الذي لحظناه .
دراسات فنية في سور القران / الدكتور محمود البستاني