وكالة أنباء الحوزة ــــ لا يُكاد يُذكر الشريف المرتضى حتى يُذكر معه أخوه الشريف الرضي، هذا ما ينتابُ الكاتب حينما يفكر في الكتابة عن أحدهما (رضوان الله عليهما)، فكلاهما كان علماً خفاقاً في سماء التاريخ وهما كما قال أبو العلاء المعري في رثاء أبيهما:
أبْقَيْتَ فينا كَوْكَبَينِ سنــــــــــــاهُما *** في الصّبحِ والظّلماءِ ليسَ بخافِ
مُتَأنّقَينِ وفي المَكـــــــــــارِمِ أرْتَعَا *** مُتَألَقَينِ بسُــــــــــــــؤدَدٍ وعَفافِ
قَدَرَينِ في الإرْداء بـل مَطَرَين في *** الإجْداءِ بل قَمَرَينِ فــي الإسدافِ
رُزِقا العَلاءَ فـــــــــــأهْلُ نَجدٍ كُلّما *** نَطَقا الفَصاحَةَ مثلُ أهـــلِ دِيافِ
ساوَى الرّضيُّ المُرْتَضى وتَقاسَما *** خِطَطَ العُلى بتَناصُفٍ وتَصــافِ
وهذه حقيقة يعيها الكاتب جيداً حينما يطالع سِفر هذين العلمين الهاديين والبحرين الزاخرين، وحينها يشعر ان مهمته عظيمة على الذهن جليلة على الفكر كبيرة على القلم، ولكنها في نفس الوقت رحلة ممتعة شيّقة ساحرة تأخذ بروح القارئ إلى آفاق علمية وأدبية رحبة.
لقد اجتمع لهذين العَلمين ما قلّ أن يجتمع لسواه من مختلف فنون العلوم والآداب فتشاركا في المكانة السامية حتى قيل: (لولا الرضي لكان المرتضى أشعر الناس، ولولا المرتضى لكان الرضي أعلم الناس).
النسب الوضيء
في حقبة نادرة في تاريخ العلوم والآداب والفلسفة والفكر، وفي عصر زخر بأعلام العلماء وكبار الادباء وفحول الشعراء، كانت بغداد على موعد مع ولادة نجمين أضاءا على أرجائها فاهتدى بهما علماؤها واقتدى بهما شعراؤها وأدباؤها ولا يزال نورهما يضيء دروب طلاب العلم والأدب إلى الآن، ففي عام (355هـ) ولد أبو القاسم علي الملقب بـ (الشريف المرتضى) ابن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبعد أربع سنوات أي في عام (359هـ) ولد أخوه لأمه وأبيه أبو الحسن الملقب بـ (الشريف الرضي)، وأمهما هي السيدة فاطمة بنت الحسين بن الحسن (الناصر الأطروش ملك الديلم وشيخ الطالبيين وعالمهم وشاعرهم) بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب (عليه السلام).
التلمذة عند المفيد
درس السيد المرتضى هو وأخوه الرضي عند ابن نباتة صاحب الخطب وهما طفلان، وكان الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان وهو كبير علماء الشيعة في ذلك الوقت قد رأى في منامه أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما صغيران فسلمتهما إليه وقالت: علمّهما الفقه ! فاستيقظ المفيد وتعجّب من ذلك، فلما أصبح دخلت عليه المسجد فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها وبين يديها ابناها (علي المرتضى) و(محمد الرضي) وهما صغيران فقام إليها وسلّم عليها، فقالت له: أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلمهما الفقه، فبكى الشيخ وقصّ عليها المنام.
وتولّى المفيد تعليمهما وأنعم الله عليهما وفتح الله لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا، وهذه الكرامة ليست جديدة على هذه الأسرة الطاهرة بأواصرها النبوية ومآثرها العلوية والتي توارثت الأمجاد والمناقب سيداً عن سيد، فقد كان أبو أحمد الحسين ــ والد الشريفين ــ نقيب الطالبيين وكبيرهم وقد لقّبه بهاء الدولة بن بويه بالطاهر الأوحد وكان السفير بين آل بويه وبين الحمدانيين وهو على جانب عظيم من المنزلة عندهم وقد قال المعري في رثائه في قصيدته الطويلة:
أوْدَى فلَيتَ الحــــــادِثاتِ كَفَافِ *** مالُ المُسيفِ وعنبرُ المُستافِ
الطّـــــاهرُ الآبـــــــــــاءِ والأبنــــــاءِ والأثــــــوابِ والآرابِ والأُلاّفِ
رغتِ الرُّعودُ وتلك هَدّة واجبٍ *** جبـلٍ هَوَى في آلِ عَبد مَنافِ
رحلة العلم
تلقى السيد المرتضى الفقه والأصول والتفسير وعلم الكلام عن أستاذه الشيخ المفيد منذ حداثة سنه، ورغم أنه استقى من غيره من العلماء الكبار في ذلك الوقت أمثال سهل بن أحمد الديباجي، وأبي الحسن الجندي، وأحمد بن محمد بن عمران الكاتب، وغيرهم، إلّا أن أعظم الشيوخ الذين تلقى عنهم واستفاد منهم وكان لهم عظيم الأثر عليه في مؤلفاته: هما الشيخ المفيد الذي كان علماً من أعلام الشيعة وإليه انتهت رئاسة الإمامية في عصره، والشيخ أبي عبد الله المرزباني الذي كان إماماً من أئمة الأدب وعلماً من أعلام الرواية وكانت داره مقصد العلماء والأدباء ومعظم ما رواه السيد المرتضى في كتبه من الشعر واللغة والأخبار تلقاه عنه.
ثم استقل المرتضى بالرأي بعد ذلك وتفرّغ للتدريس والتأليف فوضع الكثير من الكتب والرسائل والتصانيف واستنزف أيامه في المطالعة والتأليف مؤثراً مجالسة العلماء وطلاب العلم على مخالطة الرؤساء وذوي السلطان بل إنه زهِد فيما ورّث له أبوه من نقابة الطالبيين والنظر في المظالم وإمارة الحج وآثر بها أخاه الرضي ليحقق رغبته في الانقطاع إلى العلم والخلوة إلى القراءة والدرس ولم يتولّ شيئاً من هذه المناصب الاّ بعد وفاة أخيه وقد أعانه ما تهيّأ له من مكتبة واسعة تحوي على أكثر من ثمانين ألف مجلد وإنها قُومّت بعد وفاته بثلاثين ألف دينار كما ذكر الثعالبي.
مع العلماء والطلاب
كان السيد المرتضى في نِعَم سابغة وخير كثير وثروة قلّ أن تتهيأ لغيره من العلماء فقد رُويَ أنه كانت له ثمانون قرية بين بغداد وكربلاء يشقّها بنهر ينتهي إلى الفرات وكانت السفن تسير فيه غادية ورائحة تحمل السفر والزوار وخاصة في موسم الحجيج وكان لهم فيما يساقط من ثمار الأشجار العاطفة على النهر فاكهة موقوفة عليهم ولغيرهم ممن تحمل السفن وقدّروا ما تغلّه هذه القرى بأربعة وعشرين ألف دينار في العام وقد تمكّن بفضل هذه الثروة من أن يعيش في داره مكفول الرزق مقضي الحاجات لا يشغله ما يشغل غيره من شؤون الدنيا ومطالب الحياة ولا يصرفه شيء عن القراءة والدرس والتصنيف والفُتيا، بل تمكن من أن يقضي حاجة قلبه من البر بالناس ومواصلتهم والعطف عليهم وخاصة من كان يمتّ إلى العلم بصلة أو يدلي إليه برحم ماسة، فكان منزله داراً للضيافة ومدرسة للتعلم والمدارسة، كما جعل للكثير من تلاميذه مرتبات منظّمة وأموالاً موقوفة عليهم فأجرى على تلميذه أبي الحسن الطوسي ــ شيخ الطائفة وصاحب تفسير مجمع البيان ــ اثني عشر ديناراً في الشهر في ثلاثة وعشرين عاماً قضاها في صحبته إلى أن مات كما أجرى للقاضي عبد العزيز البراج ثمانية وعشرين ديناراً في الشهر وغيرهم كثير، ووقف قرية كاملة يجري خيرها على ورق الفقهاء خاصة، رغبة في نشر الثقافة ونشر العلم بين الناس.
أخلاقه
كان السيد المرتضى على جانب كبير من الخلق ورحابة الصدر ونبل الخصال فقد رُوي أنه احتال رجل يهودي على تحصيل المال، وشفاعته الرغبة في العلم فحضر مجلس المرتضى واستأذنه في أن يقرأ عليه شيئاً من علم النجوم فأذن له وأمر بجائزة تجرى عليه في كل يوم فقرأ عليه برهة ثم أسلم. ومن أمثال هذه القصص الكثيرة التي تروى عنه في كريم أخلاقه ما رواه ابن خلكان عن أبي زكريا التبريزي أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لأبن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها فاشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً وتصفّحها فوجد بها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي وهي:
أنستُ بها عشرين حولاً وبعتُها *** لقد طال وجــدي بعدها وحنيني
وما كان ظــــــنّي أنني سأبيعُها *** ولو خلّدتني في السجونِ ديوني
ولكن لضعفٍ وافتقـــارٍ وصبيةٍ *** صغارٍ عليهـــم تستـهلّ شؤوني
فقلتُ ولم أملك سوابـــــق عَبرةٍ *** مقالة مكويّ الفـــــــــؤادِ حزينِ
(وقد تخرج الحاجات يا أم مالكٍ *** كرائم من ربٍ بهنَّ ضنيــــــنِ)
فلما قرأ المرتضى هذه الأبيات أرجع إليه النسخة وترك الدنانير جرياً على عادته من صلته بأهل العلم وبرّه بهم، فكانت الرحال تشد إليه ويفد الناس عليه من كل البلاد فكان يضع لكل منهم كتاباً وتعددت رسائله ومسائله فوضع المسائل الديلمية والطوسية والمصرية والموصلية وغيرها وبرع ونبغ في علم الكلام وأصول الجدل فحاجّ النظراء والمتكلمين وناظر المخالفين وكتابه الشافي حجةً على سعة اطلاعه وعلمه في الجدل، وله في تفسير القرآن الكريم وتأويله ما كشف عن علم مكنون لم يسبقه إليه غيره كما حفظ من أخبار العرب وأيامهم وأشعارهم ولغاتهم ما جعله في الرعيل الأول من الرواة والحفّاظ والأدباء فكان مفخرة العصور ومعجزة الدهر، فهو إمام الفقه ومؤسس أصوله وأستاذ الكلام ونابغة الشعر ورواية الحديث وبطل المناظرة والقدوة في اللغة وبه الأسوة في علوم العربية كلها والمرجع في تفسير القرآن الكريم وليس أدل على ذلك من كتابه (غرر الفوائد ودرر القلائد) المعروف بـ (الآمالي) الذي يعد آية من آياته الباهرة وأسفاره الفذة في عالم العلم والأدب وكتابه (الشافي في الإمامة) الذي لم يصنف مثله في الإمامة.
أما لقبه المرتضى فقد روي أن الوزير محمد بن الحسن مرض فرأى في منامه أمير المؤمنين (ع) يقول له: قل لعلم الهدى يقرأ عليك حتى تبرأ فقال: يا أمير المؤمنين ومن علم الهدى؟ فقال (ع): علي بن الحسين الموسوي فكتب إليه فقال: الله الله في أمري فإن قبولي لهذا اللقب شناعة عليّ، فقال الوزير: والله ما كتبت إليك إلا ما أمرني به أمير المؤمنين (ع)، فأضيف هذا اللقب الى ألقابه الأخرى (المرتضى) و (الأجل الطاهر) و(ذي المجدين).
وإضافة إلى تصدره مركز الرئاسة في العلوم والآداب، فقد كان المرتضى شاعراً مجيداً مكثراً وهذه الصفة قلما اجتمعت لشاعر بإكثاره وجودته قال ابن شهر آشوب: (إن ديوانه يربو على عشرين ألف بيت)، وذكر بروكلمان (أن هناك نسخة منه في مكتبة مشهد) وقد أورد المرتضى طائفة منه في كتاب الغرر (الأمالي) والشهاب، وطيف الخيال، كما ذكر الثعالبي في تتمة اليتيمة والباخرزي في دمية القصر قدراً وافياً منه كما أورد جزءاً منه الخطيب في تاريخ بغداد وقال عن المرتضى: (كتبت عنه وعن جامع الأصول أنه عدّه ابن الأثير من مجددي مذهب الإمامية في رأس المائة الرابعة) وقال ابن خلكان في وصفه: (كان نقيب الطالبيين وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر...) وقال عنه ابن بسّام في الذخيرة: (كان هذا الشريف إمام أئمة العراق إليه فزع علماؤها وعنه أخذ عظماؤها صاحب مدراسها وجماع شاردها وأنسها ممن سارت أخباره وعرفت به أشعاره وتصانيفه في أحكام المسلمين ممن يشهد أنه فرع تلك الأصول ومن ذلك البيت الجليل ...). وهناك أقوال أخرى كثيرة تشابهت في مضمونها
مع أبي العلاء المعرّي
وكان الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري سمع فضائل المرتضى وعلمه فاشتاق إلى زيارته فحضر مجلسه فلما سمع حديثه قربه وأدناه فامتحنه فوجده وحيد عصره وأعجوبة دهره فكان أبو العلاء المعري يحضر مجلس السيد وعدّه من شعراء مجلسه وجرى بينهما مذاكرات في الرموز وغيرها ولما خرج المعري من العراق سُئل عن السيد المرتضى فقال:
يا سائلي عنه لمَّـــا جئت أسأله *** ألا هو الرجلُ العـــــاري من العارِ
لو جئته لرأيتَ الناس في رجل *** والدهرُ في ساعةٍ والأرضُ في دارِ
وكان المرتضى متفرِّداً في درسه متفنناً بمذاهب الكلام بصيراً بحقائق السير والتاريخ والأخبار أبدى تفوقاً عجيباً في التوفيق بين تأويل الآيات المتشابهة مما يبهم تأويله على الخاصة والعامة وكذلك أبان عن ذهنه الوقّاد الكشف عما دار على ألسنة العرب من نصوص الشعر واللغة بذكاء فريد وبصر نافذ وأعانه فيما فسّر وأوّل ووجّه وفرة محفوظه وسعة اطلاعه على الشعر واللغة ومأثور الكلام وكان الطابع الذي يغلب عليه عرض الوجوه المختلفة والآراء المحتملة مجوزاً في ذلك إمكان الأخذ بالآراء جميعاً وقد بذل جهده في تآليفه على تشييد مذهب أهل البيت (ع) والدفاع عن الحق ورفع الستار عن الحقيقة.
أهم مؤلفاته
ألف المرتضى كثيرا من الكتب والرسائل أهمها:
الشافي
الأمالي
الذخيرة في الأصول وإبطال القياس
الذريعة في أصول الفقه
الرسالة الباهرة في العترة الطاهرة
المصباح في أصول الفقه
المقْنِع في الغيبة
الوعيد
رسالة في المحكم والمتشابه و... غيرها الكثير من المسائل والرسائل والتآليف والتصانيف التي عدت مصدراً للعلماء ومنهلاً للأدباء على مر الأجيال.
صفته ووفاته
ذكر الخوانساري في روضات الجنات في صفة السيد المرتضى: إنه كان نحيف الجسم حسن الصورة. وذكر أيضاً أن وفاته كانت سنة 463 هـ، وصلى عليه ابنه أبو جعفر محمد وتولى غسله أحمد بن الحسين النجاشي، والشريف محمد بن جعفر الجعفري، وسلار بن عبد العزيز الديلمي، ودفن أولاً في داره ثم نقل إلى جوار جده الحسين (ع) ودفن في مشهده مع أبيه وأخيه الرضي وذكر أيضاً: (إن قبورهم ظاهرة مشهورة).
والظاهر أنها كانت ظاهرة في ذلك الوقت ويدل على ذلك أن هناك روايات تؤكد على أنهم ــ المرتضى والرضي وأباهما ــ دُفنا عند قبر السيد إبراهيم المجاب جد المرتضى وحفيد الإمام الكاظم (ع). منهم السيد العلامة الطباطبائي عند ذكره للسيد المرتضى في كتابه (الفوائد الرجالية) نقلاً عن الحسين بن علي بن شدقم الحسيني المدني صاحب مسائل الشيخ البهائي
محمد طاهر الصفار