وكالة أنباء الحوزة - يوافق العشرين من شهر صفر ذكرى أربعينية الإمام الحسين (ع) ، فبهذه المناسبة الأليمة نسلط الضوء على بعض القيم التي تحملها هذه المناسبة، وهي مواصلة الاستنهاض ضد الطغاة.
كلما تتكرر الذكرى العظيمة ذات الأهداف النبيلة السامية يتجسد حدثها وكأنه ولد من جديد،لأن رافدها الحق ،ورحمها الحقيقة، ولأن الهالة التي تحيط بعظمتها دائمة التوهج، لاتنقطع عن بث سناها.
ومن فضائل نهضة سيد الشهداء على البشرية ان الوجدان الأصيل يحتوي صداها بشغف، لأنه مدين لها بالإيقاظ والاستنهاض.. ويتفاعل مع شعائرها، لأنها أشبعته بروافد الحرية ونسائم الكرامة.
وكيف لايهتز وينحني لقدسيتها وقد زرع غرس عظمتها سيد شباب أهل الجنة في يوم دام، شهد فيه التاريخ نهضة فاعلة وميدانية ضد الباطل، لإيقاظ ضمائر الناس وتحريك مشاعرهم وأحاسيسهم.
كان ظهور الدور الحسيني في سنة ستين للهجرة، حيث الأمة بانتظار رجل تاريخي ينهض بأعباء الدور القيادي، ويكون حارسا ومسؤولا عن هذه الثورة الكبرى التي أطلقها محمد بن عبد الله، والتي أخذت دعائمها تتقوض تحت ضربات بني أمية وأعوانهم.
لقد وقف الحسين عليه السلام ونظر الى زمانه هذا، فماذا رأى؟
رأى زمنا شلت فيه العقول واشتريت الرجال والضمائر، وقطعت الألسن وخيطت الشفاه، وهدمت قواعد الحقيقة على رؤوس انصارها، واقتلعت معطيات الثورة الأسلامية من جذورها، والأمة في طريق التدهور والاستسلام ..ثم رأى زمنا الأوفياء فيه بلا أنصار، والشباب إما يائسون أو منحرفون او مباعون، اما الزهاد ففي الزوايا والخلوات، واما السلف والأكابر فقد استشهدوا او اشتريت ضمائرهم او انطووا على أنفسهم.
ولاشك في ان تحريك تلك الضمائر شبه الميتة والعمل من اجل إعلاء كلمة الحق وردم بؤر الباطل يحتاج الى فدية ضخمة وكان يعلم عليه السلام انه هو الوحيد الذي يملك ان يتقدم لتحقيق ذلك لأن الحقيقة تقول “من كان أكثر وعيا كان اكثرمسؤولية”.
ان البعد الوجداني الذي اصطلح عليه بالبعد الرابع في هذا الموضوع الجهادي العظيم يكاد يطغى على كل الأبعاد الأخرى في ملحمة عاشوراء، لأن نبض الإنسانية مرتبط بحكم التداخلات السايكولوجية المودعة في أعماق النفس، فكل شريان ينزف بسبب اختراق صادر من ظالم فاسق ضد إنسان نقي، تبكي عليه الإنسانية وتندبه..فكيف حال الإنسانية مع أطفال وفتيان وكهول كانوا كواكب تمشي على الأرض يسري في عروقهم نور النبوة واشراقة الإمامة فإذا بهم يهوون سراعا بسيوف أراذل الأرض وفساقها في ظهيرة يوم ليس كمثله يوم.
ان خلود ذكرى الطف في وجدان الإنسانية كانت تحصيل مراحل اجتازها الإمام ابتداء من البعد الأول لنهضته الخالدة وهو بعد الإرتباط بالله تعالى ذلك البعد المقدس المُداف بلحمه ودمه عليه السلام تحقيقا لأهداف الهية، سبق أن أشار إليها جده المصطفى صلى الله عليه وآله يوم قال: “حسين مني وانا من حسين” وهو النبي المرسل الذي “لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى”.
ومن ثم مرحلة البعد الثاني وهو البعد الإنساني الذي تفاعل الحسين عليه السلام مع أجوائه من خلال خطبه وكلماته التي أكد فيها قضية رفض الظلم اينما وجد كقوله عليه السلام عند التقائه بالحر بن يزيد الرياحي: “الا وان هؤلاء لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء واحلوا حرام الله وحرموا حلاله”.
ان الحسين عليه السلام كان يركز على الظلم والجور الذي كان يمارسه يزيد تجاه المسلمين وتجاهه بشكل خاص، وكذلك قضايا الحرمان والاستضعاف.
لذا فان البعد الثاني المذكور كان بعدا إنسانيا مطروحا في تحركه عليه السلام.
أما البعد الثالث وهو التخطيط الكامل للتحرك.. البعد الذي أفضى في محصلته الى تعرية بني أمية وكشف حقيقتهم وقد تجسد ذلك قبل المعركة وبعدها، أضف الى ان التخطيط الهادف لتبصير الناس بما يحيطهم من ضلال، يترك آثارا نفسية وسياسية واجتماعية على مجمل الأوضاع العامة للمسلمين، وهذا ما كان يستهدفه الإمام في كل خطوة خطاها.
لذا كان وراء إقدامه عليه السلام تخطيط محكم وفي غاية الدقة،من اجل تفعيل أهداف النهضة قولا وفعلا، لأنه لو اخذ برأي الناصحين له بالجلوس في بيته وعدم التوجه الى العراق، لأعطى حكومة يزيد الفاجر صفة الشرعية ولأنه عليه السلام كان عارفا بأن بقاءه سيؤول الى القتل ايضا ولكنه ما أراد قتلا بصورة او حالة لاتضخ وقودا متجددا لديمومة الرسالة المحمدية كالتي ضختها معركة الطف بمشاهدها وأحداثها الأليمة.
ان كل من فكر ويفكر على مر الأيام والسنين في هكذا تخطيط بعيد المدى، وما آلت إليه النتائج من انتصار الدم على السيف قد أصبح متيقنا كل اليقين بأن الحسين عليه السلام إنما هو للإنسانية جمعاء، ولاشك في ان هكذا يقين لابد ان يحتل في الوجدان مكانا لايبرحه بفضل مابثته النهضة من ومضات فاعلة للإيقاظ والتبصير وعدم التراجع.
ولاشك في ان الأبعاد الثلاثة قد تداخلت، ليولد البعد الرابع الذي هو البعد الوجداني الباقي الى يومنا هذا يستنهض الهمم ضد البغي والطغيان ويُبكي القلوب قبل العيون لعِظم المأساة التي اتخذت لها في سويداء القلوب مشاعل دائمة.. فكل موقف دام أفرزته واقعة الطف في كل لحظاتها هو خالد في وجدان الإنسانية.
فلماذا وقف ويقف الوجدان وراء كل حركة او خطوة في ذلك التوجه..؟
من الشائع في السياق الاجتماعي العام ان مما يثير المشاعر ألما هو تفعيل سلوكيات ظالمة تنتج عنها صرخة مظلوم ضاع حقه، اما أشد مايلهب المشاعر ويقسرها على ان تذرف الدموع دما، اذا رافق الصرخة نزفُ شريان وقطعُ وريد، لا لأجل ملك مُضاع، او منصب دنيوي مُرتقب، وإنما لأجل الإصلاح وإحقاق حق اغتصبه فاجر، ولأن إحقاق الحق مطلوب في مختلف الظروف وان الطغاة والظالمين وراء سحقه وضياعه، فان وجدان الإنسانية يبقى يستلهم من مواقف دعاة الحق والعدالة والإنصاف حافزا لمقارعة الإنحراف، وطمأنة المظلومين بأن في الأفق صيحة مبادئ سامية سيبقى دويها دائم الحدثان، لأنها انطلقت بفصاحة إمام معصوم في أجواء نشط فيها الفجور واستفحل في جنباتها الباطل، انها الصيحة الخالدة التي ارتبطت كلماتها منذ ولادتها بالوجدان الإسلامي الذي تشرّف باحتوائها واتخاذها نبراسا، لتنير الطريق في يوم تتلبد فيه الغيوم، لان في كل عصر يوجد( يزيد) لابد من ان يخرج عليه احد، وعندها يحتاج داعي الحق الى تلك القولة المبدئية المدوية:
“إني لم اخرج أشرا ولابطرا ولامفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطاب الإصلاح في امة جدي، أريد ان آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّعلي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين”.
* شبكة الكفيل العالمية