۳۰ اردیبهشت ۱۴۰۳ |۱۱ ذیقعدهٔ ۱۴۴۵ | May 19, 2024
السيد علي فضل الله

وكالة الحوزة / ألقى السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين.

وكالة أنباء الحوزة / ألقى السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى على ما يلي:


قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وَالله رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ).

الفاجعة الّتي هزَّت الأمَّة
نستعيد الفاجعة التي آلمت بالمسلمين جميعاً، وهزّت مشاعرهم وأبكت عيونهم، بعدما أهوى أشقى الأوَّلين والآخرين ابن ملجم بسيف الحقد على رأس من باع نفسه لله، ومن كان بالنّسبة إليهم الأب والمربي والإمام، وهو ساجد في محراب صلاته لربّه، فأصابه في مقتل...
ما حدث هو مصاب كبير لحق بالأمّة، وبالنّسبة إلى عليّ(ع)، كان الموقف، وكما عبّر هو عن ذلك، وفي قمّة الألم المعنويّ والجسديّ والجراحات الّتي أدمت جسده الشّريف: "فزت وربّ الكعبة"، وهو بذلك اختصر مسيرته الرسالية في درب العروج إلى الله، وها هو اليوم يصل إلى أقصى مداها...

وقبل أن يغادر الدّنيا، وفي لحظة إصرار على أداء المسؤوليّة، حرص الإمام على أن يوجِّه من ضمن وصاياه، وصيّةً تتعلَّق باغتياله تحديداً. وهذا ما يندر ما يحصل في مثل هذه المواقف، فوقوع ذلك الحدث الجلل، وبالصّورة التي حصل فيها، كان يمكن أن تحكمه ردود فعل قاسية، ناتجة من مشاعر الحزن والانفعال والإحباط الّتي سيطرت على المسلمين في تلك اللّحظات، وكان يمكن أن تدفعهم إلى الانتقام غير الواعي والجاهليّ، بعيداً عن منطق الإسلام الّذي يرى أنّ العدالة لا تتجزّأ.. كان هاجس الإمام تحقيق العدالة وعدم وقوع الظّلم، حتى الرمق الأخير من عمره، وإن كان الأمر يمسّه هو.. فطالبَ بني عبد المطّلب بـ"ألا يقتل إلا قاتله"، وبعيداً عن منطق الثأر الجاهلي الأعمى، ومن دون التّنازل عن الأخلاق والقيم، وأن يحسنوا إلى قاتله ابن ملجم، بأن يطعموه من طعامه، ويشربوه من شرابه، ويمهّدوا له فراشه، ويحسنوا إساره.
لقد أراد الإمام(ع) أن يبيّن أن لا شفاء غيظ ولا عصبيّة في الإسلام.
فسلام على أمير المؤمنين(ع)، على هذه الأخلاق الرّفيعة، والسّمو الإنساني الذي قلّ نظيره في العالمين.

حقد يتلطّى بالدّين!
إن السؤال الذي يطرح في هذه المناسبة: ما الذي دفع ابن ملجم إلى أن يقدم على قتل من هو معروف عنده بأنّه أوّل النّاس إسلاماً، وأكثرهم جهاداً وعلماً وعبادةً وأخلاقاً وعدالةً وموقعاً عند الله وعند رسوله؟! إنّه الحقد، لكنّه ليس أيّ حقد. ابن ملجم هذا كان عبارةً عن حقد أعمى تلطّى بالعقيدة والمقدَّس، وهنا خطورة الحقد عندما يكون بهذا المستوى وهذا الشّكل، وقد عبّر عن هذا الحقد سيفه المسموم، وإقدامه على جريمته والإمام في الصّلاة في المحراب، وأثناء السجود وفي قمّة الخشوع.. وهو ما لا يمكن لإنسانٍ أن يبرّر لنفسه ارتكاب جريمةٍ بحجم هذه الجريمة وبهذه الظّروف، لولا أن يكون لديه قلب قاس وعقل متحجِّر. إنَّ ابن ملجم هو ليس سوى نتاج الشخصيَّة الّتي بتنا نراها في أمَّتنا، وتعيش الويلات من جرّاء جرائمها وفعالها.
إنّه نتاج هذا الفهم السّطحي والحرفي والقشوري للدّين، الّذي يجعله يتحوّل من الرّحمانيّة والسمّاحة للعالمين، إلى فعل الإجرام بحقّ الآخر المختلف.

بداية بروز المنطق التّكفيريّ
هو من الخوارج، كما هو معروف لديكم، وهم أوّل من خرجوا على عليّ(ع).. وقد ظهر أوّل بروزٍ لهذا المنطق في معركة صفّين الّتي حصلت بين جيش عليّ(ع) وجيش معاوية، وهم كانوا في جيش عليّ في مواجهة جيش معاوية، إلى أن اتهموا عليّاً(ع) بالكفر بحجّة مقولة ابتدعوها، أنّه(ع) قبل بتحكيم الرّجال ولم يحكّم الله، فهو بذلك قد كفر! أيّ منطق أكثر سطحيّةً وأكثر صلافةً ومحدوديّة من هذا المنطق؟! وقد حاورهم أمير المؤمنين يومها لتفكيك هذا المنطق السّاذج..
والقصّة تعرفونها، وهي حصلت عندما أحسّ معاوية بأنّ الهزيمة قاب قوسين أو أدنى منه، فاستشار عمرو بن العاص، وهو من جيشه، ومعروف بالدّهاء والمكر، فأشار عليه بأن يرفع المصاحف، ويدعو للاحتكام إلى القرآن، وهو يهدف من ذلك إلى شقّ صفّ الإمام(ع)، والاستفادة من هؤلاء السذَّج..
وفعلاً سارع هؤلاء إلى الطّلب من الإمام بالانسحاب من المعركة.. فحاول الإمام(ع) أن يقنعهم بالهدف من ذلك، وأنهم لا يريدون إلا النّجاة لأنفسهم، ولو أرادوا القرآن لأخذوا به عندما عرض عليهم الاحتكام إليه في بداية المعركة، كما في كلّ قتالٍ لعليّ(ع)، ما اضطرّ الإمام(ع) أن يوقف القتال ويقبل بالتّحكيم، وكان التحكيم يقتضي أن يعيّن كلّ من عليّ(ع) ومعاوية من يمثّلهما في المفاوضات، فعيّن معاوية عمرو بن  العاص، وعيّن عليّ(ع) أبا موسى الأشعري.. وهنا نقل هؤلاء المعركة في مواجهة عليّ(ع) لقبوله بتحكيم الرّجال، فيما لا حكم إلا لله..
حاول الإمام(ع) أن يبيّن لهم أوّلاً أنّهم هم من اضطرّوه لقبول التّحكيم، وهو كان يريد استمرار المعركة وعدم الرّضوخ لمكيدة معاوية، ثم بيَّن لهم ثانياً أنّه إنما لم يحكّم الرّجال على حساب الله أو في مقابله، وإنما حكّمهم ليحكموا بما ما أنزل الله، وما الرّجال إلا وسائل.

عندما يصبح التّكفير إجراماً!
كم عانى الإمام في ذلك الموقف! ـ وهو القائل: ملأتم قلبي قيحاً ـ فهو بكلّ ما وصل إليه من عقل وفكر، يضطرّ ليشرح أمراً بديهيّاً يفهمه أيّ ذي منطق: فأن يكون الحكم لله، فهذا أمر مسلَّم به، ولكن آليّة تحقيقه وتطبيقه هي بشريّة...
لم تكن مشكلة عليّ مع هؤلاء لرأيهم، أو لأنهم كفّروه وكفّروا أصحابه، وكانوا ينظّرون تنظيرات ما أنزل الله بها من سلطان، حتى وصلوا إلى تكفير كلّ من ارتكب كبيرةً، بحيث كان يكفي أن يغتاب الإنسان أو يكذب حتى يحكم بكفره، وبناءً على ذلك بارتداده وقتله.. فقد حاورهم مراراً وتكراراً بالحجّة والبرهان، وخلاصة موقفه تقول: إنّكم أحرار فيما اعتقدتموه، وإن لم تقتنعوا بالحجّة والبرهان، فذلك شأنكم، والله يحكم بين عباده يوم القيامة. كان الإمام منصفاً في مواجهتهم، صبر عليهم، تجاوز عن الكثير من إساءاتهم، فراحوا يعكّرون عليه حتى صلاته. لم يبادلهم المنطق نفسه، لم يكفّرهم كما كفَّروه، وعندما كان يسأل عنهم أكفّار هم؟ كان ينفي ويقول: "من الكفر فرّوا"، وعندما قيل له: أمنافقون هم؟ قال: "إنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً"، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً في ليلهم ونهارهم. وعندما قيل له: من هم؟ قال(ع): "هم قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا وبغوا علينا".
وقد قال لهم: " لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدأكم بقتال".
مشكلة عليّ(ع) مع هؤلاء حصلت عندما تحوَّل رأيهم إلى فعل إجرامٍ وترهيب.. وعند الدّماء، قرَّر عليّ مقاتلتهم عن يقين؛ يقين لم تزعزعه سمات هؤلاء وتصنيفهم كزهّاد وعبّاد، وقد كانوا يلقَّبون بأصحاب الجباه السّوداء والشّارين، أي الّذين كان يقال عنهم ـ وفق الظّاهر، وبالمنطق الطقوسيّ ـ إنّ هؤلاء اشتروا أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنّة.. وقد تحدّث عنهم عبد الله بن عباس، عندما أرسله الإمام(ع) إليهم ليناظرهم بعدما خرجوا عليه، فقال: "دخلت على قوم لم أر قطّ أشدَّ اجتهاداً منهم، مسهمة وجوههم من السّهر... ووجوههم معلَّمة من آثار السجود...".
ولكنّ عليّاً بالرغم من هذه السّمات،لم يتحرّج من قتالهم ومن التّجييش لحربهم، بعدما بدأوا يجرمون بحقّ عباد الله قتلاً وتعطيلاً للحدود، فكانوا يقتلون الرجال والنساء بتهمة الكفر، وحتى الأجنّة، وكانوا يبرّرون ذلك بالآية القرآنيّة: (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا).
إنَّ الإجرام من أيٍّ كان مرفوض ومدان، حتى وإن ارتدى عباءة النّسك والعبادة... وقتالهم إنّما ينطلق لتصحيح أفكارهم ومفاهيمهم المشوَّهة. فالقتال في المنهج الإسلاميّ ليس لفرض الفكر، بل لإيقاف العدوان والبغي، وحفظ النّظام ومنع الإجرام باسم الدِّين.

ارسال التعليق

You are replying to: .