۶ آذر ۱۴۰۳ |۲۴ جمادی‌الاول ۱۴۴۶ | Nov 26, 2024
سماحة السيد علي فضل الله

وكالة الحوزة / ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، وتحدث عن مختلف جوانب الورع.

وكالة أنباء الحوزة / ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبة الأولى:

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا الله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}. صدق الله العظيم.

اقتضت مشيئة الله في هذه الحياة، أن يكون الأصل في الأمور عنده، هو الإباحة لا المنع، والحليَّة لا الحرمة، ولا ينبغي للإنسان أن يقلِّل من هذه المساحة، ولكن هذا لا يعني أنْ ليس هناك حدودٌ وضعها الله للإنسان، فهناك من النّواهي المنصوص عليها من الله، ما يستلزم أن يضع الإنسان الله نصب عينيه دوماً وأبداً.

في خطبة للامام عليّ(ع) قال: "والله، لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرة ما فعلت". ويخبرنا القرآن كيف أن النبي يوسف(ع) وقف ممانعاً لخطط امرأة العزيز، لمّا دعته للانجرار وراء نزقها ونزواتها، فقال: {مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}. وينقل إلينا القرآن أيضا كلام هابيل لمّا جاء أخوه قابيل لقتله: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ}. 

وهنا قد يسأل المرء: ما الوصفة الّتي تجعل الإنسان يقف صاحياً واعياً، فلا يؤذي نملةً إن كان لله في ذلك غضب؟ ويسأل: ما الدَّواء الّذي يمكنه أن يضبط غريزته في الحرام ورغبته في الانتقام؟ وما هو الحاجز الَّذي يردعه عن الظّلم والتجنّي في اللَّحظة الّتي يتمكَّن من ذلك؟

والجواب عن هذا السّؤال هو ما اصطلحت عليه الأحاديث بالورع، والورع هو الشّعور برقابة الله  والحياء تجاهه والخوف منه.

سبيل الورع

والورع ليس حالةً وظيفيَّة أو عملاً أو دوراً أو رداءً يلبسه الإنسان ثمّ ينتهي، فالموضوع ليس ميكانيكيّاً وآليّاً، بل هو حالة قلبيَّة تضبط الجوارح والأفعال كالميزان وبالدّقّة، وهذا بالعادة مما تقتضيه الفطرة السَّليمة، إذ إنَّ الله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}[الحجرات: 7]. ولكن لأنَّ الفطرة تتلوَّث وتنطمس، ولأنَّ القلب قد يزيغ ويعلوه الرَّين والصَّدأ، كان لزاماً العمل على تحصيل الورع، عبر تدريب النَّفس ومجاهدتها وتزكيتها، ليس فقط حتى تتجنَّب المحرَّمات على مضضٍ أو على كره، بل المطلوب تدريب النّفس للسّموّ بها إلى ما هو أعلى وأرقى، بحيث يصبح تجنّب الكبائر والذّنوب أمراً مكروهاً بذاته، لا لأنّه منهيّ عنه بالنّصّ فحسب، بل لأنّه سبيل الإنسان للارتقاء بانسانيَّته، ولأنّه يؤهِّله ليتخلّق بأخلاق الله، وأن يكون خليفته على الأرض. عندها يصبح الإنسان من خلال شعوره بالورع أنموذجاً وداعيةً إلى الله بلسانه وقلبه وعمله، فترى أفعاله تسبق أقواله، وترى تبسّمه يسبق كلماته. هذه هي أيّها الأحبّة طريق الورع، والّذي هو طريق طويل يستلزم التزاماً ووعياً وانتباهاً.

أمّا السبيل إلى هذه المرتبة العالية، فيتمثّل بأمرين نصّ الله أنّهما سبب خلقنا وغايته، وهما: العبادة، كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ* إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذّاريات: 56-58]، والأمر الثّاني هو إقامة العدل والقسط: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25].

ومن الخطورة بمكان، أن يحصل الفصام والانفصال وعدم التّزامن بين الأمرين، يعني أن لا تتكامل العبادة الذّاتيّة مع العدل المجتمعي، فعندها نجد ما يسمّى بالورع البارد أو الورع المنقوص، وصولاً إلى وجود نوع من الورع المصطنع ـ وما أكثره! ـ وهذا النّوع من تصنّع الورع كغطاءٍ شكليٍّ لأهداف شخصيَّة، لطالما ابتليت البشريَّة به، وتلطَّى خلفه الكثير ولا يزالون ممن تاجروا بالدّين، أو أخذوا من الدّين بعضه.

الورع جوهرٌ لا شكل

أيُّها الأحبَّة: إنَّ الورع قد يبدأ بنيَّة حسنة، ولكنَّه ـ للأسف ـ قد يتفرَّغ من مضمونه إلى أن يصبح شكلاً ثم حرفةً وصنعةً ومهارة.

وقد جاءت الأحاديث لتدعو إلى جوهر الورع، وتحذِّر من الاقتصار على شكله. ففي حديث لرسول الله(ص): "إنّكم لو صلَّيتم حتَّى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، ما ينفعكم ذلك إلا بورع".. "الورع سيِّد العمل، ومن لم يكن له ورع يردّه عن معصية الله تعالى إذا خلا بها، لم يعبأ الله بسائر عمله، فذلك مخافة الله تعالى في السّرّ والعلانية، والاقتصاد في الفقر والغنى، والصّدق عند الرّضا والسّخط".

وهناك حديثٌ يستدعي الانتباه والخوف، فعن رسول الله(ص): "لأعلمنَّ أقواماً من أمّتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة ‏بيضاً، فيجعلها الله عزّ وجلّ هباءً منثوراً". فقال له أحد أصحابه: صفهم لنا، قال: "أما إنَّهم إخوانكم ومن جلدتكم، ‏يأخذون من اللَّيل كما تأخذون، ولكنَّهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".

وهناك قولٌ للغزالي، صاحب كتاب "إحياء علوم الدِّين"، يقول فيه: "الورع ليس في الجبهة حتَّى تُقطّب، ولا في الوجه حتّى يُعفَّر، ولا في الخدِّ حتّى يُصعَّر، ولا في الظّهر حتّى ينحني، ولا في الرّقبة حتى تتطأطأ...إنّما الورع في القلب"!

فليس ورِعاً من يسارع إلى الحرام كلّما لاحت له فرصة لارتكابه، وليس ورعاً من يخلط حراماً وحلالاً، أو من يستهين بارتكاب الحرام لأنَّ فرصة التّوبة متاحة، أو من يرتكب الكبائر والجرائم ثم بعد ذلك يتوقَّف عند بعض التّفاصيل، كما يحدّثنا التّاريخ عن قاتل الصحابي عمار بن ياسر، الّذي رفض أن يشرب من إناء مفضَّض قدّمه له أحد الأشخاص، بحجَّة أنّ رسول الله نهى عنه، فيما لم يتوانَ عن قتل من قال عنه رسول الله: "تقتلك الفئة الباغية"، أو كما هو حال ذاك الرَّجل، الّذي راح يسأل عن دم البعوضة أطاهر أم نجس، وهو الَّذي شارك في قتل الحسين(ع)، ريحانة رسول الله، وسيّد شباب أهل الجنّة، أو كما حال الكثيرين الّذين يصلّون ويصومون ويحجّون، ولكنّهم يظلمون النّاس أو يغشّونهم.

الورع أمان الإنسان والمجتمع

أيُّها الأحبَّة: إنَّ علَّة الورع في أن يشكِّل أماناً للإنسان من نفسه، يحرسه ويحميه من طغيان شهواته وغرائزه، وهو طوق نجاة للمجتمع، به تحفظ الأعراض والدِّماء والأموال من آثار الفتنة والنَّميمة والفتن، وهو سببٌ لبذل المعروف وسخاء اليد، فالَّذي حصَّن نفسه بالورع، لا يمكن أن يتورَّط في أيِّ شكلٍ من أشكال الفساد الماليّ أو الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ، أو في رشوة أو تلاعب بالمال العام.

إنَّ القوانين والتَّشريعات لا تكفي وحدها لتحفظ البلاد والعباد، هي بحاجةٍ دائماً إلى الورع، بعد أن بات واضحاً مدى قدرة الإنسان على التَّلاعب بالقوانين والتَّشريعات، وتجييرها لحسابه، أو تفريغها من مضمونها، ولذلك اسألوا عن الورع قبل الصّلاة والصّيام.

شهر التَّوبة والورع

أيّها الأحبَّة: نحن نعيش في هذا الشَّهر، شهر رجب، ذكرى ولادة الإمام الباقر(ع)، هذا الإمام الّذي لقّبوه، إلى جانب كونه باقر العلم، بأنّه إمام الورع، وهو الّذي أوصانا: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر"، وخصوصاً في تلك الوصيَّة الّتي وجَّهها إلى أحد أصحابه، حين قال له: "ياخيثمة، أبلغ موالينا أن لا يغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل، وأنَّهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع، وأنَّ أشدّ النَّاس حسرةً يوم القيامة، من وصف عدلاً ثمَّ خالفه إلى غيره". كما قال جدّه عليّ(ع): "من أحبَّنا فليعمل بعملنا، وليستعن بالورع، فإنّه أفضل ما يستعان به في أمر الدّنيا والآخرة".

وأخيراً، لا بدَّ لنا في هذه الأيّام من استثمار أجواء هذا الشَّهر الكريم (رجب) في العبادة والذّكر والاستغفار، فهو الشَّهر الأصبّ الّذي تصبّ فيه الرّحمة على العباد صبّاً، فبالعبادة نرتقي ونعلو ونسمو إلى علياء الله لتنزل بنا إلى مفاصل الحياة.

إنَّ كلّ ما نعانيه من فسادٍ هو ليس ممن يعلنون قطيعةً مع الله، إنما قد يكون من أصحاب الثفنات السّود، كما كان حال الخوارج.

نحن لا يمكن أن ندَّعي الورع، إنّما علينا أن نعيشه، بعيداً عن الشّعارات والطّقوس الفارغة، وليعد كلّ منّا في مناسبة هذا الشَّهر إلى نفسه، ليختبر منسوب الورع لديه، وليُعِد النَّظر في مشاكله مع مَن حوله في بيته، أقاربه، جيرانه، أصحابه، لعلَّها تكون ناشئةً من انعدام الورع أو نقصانه.

في نظرةٍ سريعةٍ إلى المجتمع لدينا، نكتشف كم صار الخوف من الله مغيَّباً، فقد وضعنا الله جانباً، فلم نعد نهابه أو نخافه أو نستحي في كثيرٍ من تفاصيل الحياة الَّتي أصبح ـ للأسف ـ الحديث عن مراعاة الله والورع فيها، أمراً مستغرباً ومرفوضاً، والنّاس تصمّ آذانها. والمشكلة الكبرى أنَّ هذا يحصل ونحن نتكلَّم باسم الله وباسم دينه ورسوله وبحبّ آل بيته، ونسينا قول الله الّذي دعا إلى التّوفيق بين القول والعمل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}[فصِّلت: 30].

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

 

ارسال التعليق

You are replying to: .
captcha