وكالة أنباء الحوزة ـ كتب الإمام موسى الصدر رسالة بمناسبة عيد الأضحى المبارك، يدعو فيها إلى التأمل وأخذ العبر من التاريخ، فإن فيها دروس للشعوب المسلمة لتمضي قدماً باتجاه مستقبل مزدهر ولامع، مستخدمة طاقاتها لتحقيق غايات متسامية، وفيما يلي نص هذه الرسالة:
باسمه تعالى
أيها الاخوة المؤمنون
كنت أحب أن أتحدث إليكم عن العيد، فشعرت بحيرة في الأمر عن أي عيد أتحدث؟ عن العيد المرهم أو عن العيد الجرح؟ عن العيد الأمل أم عن العيد اليأس؟ عن العيد الذي كان من فرص الملحمة لتكتب فصار فرصتها لتقرأ.
هل أتحدث عن العيد الذي هو توق إلى الخالق أم عن ذلك الذي هو تزلف إلى المخلوق؟ ثم أني كنت أفتش عن جذره في الزمان فرأيت إبراهيم أبا الأنبياء، وقائد الموحدين يحمل إيمانه بربه متوكئًا على شيخوخته وابنه قطعة قلبه، ليقدمه في المذبح قربانًا، يقول لله: هذا في رضاك... ويقبل الرحيم الكريم القربة... ويبعث من عنده الفدية ويجعل منه إمامًا للخلق أجمعين. وخاتم النبيين صنع من العيد هجرة خالصة لله ترجمها في الحج إلى بيت الله لكل ﴿من استطاع إليه سبيلًا﴾ [آل عمران، 97].
فما الحج إلا هذا السفر عن "الأنا" للقاء "الهو" لنفرغ "الأنا" فيها ونملأها بـ "هو". نسافر إليه، أي نترك الدار والعقار ونهجر الراحة والإستقرار.
وفي الميقات على خطوات هناك نحرم... أي نضحي باللباس العَرَض ونهجر مباهج الجسد. ثم نطوف حول البيت العتيق وبين الصفا والمروة نهرول... أي نضحي بالوقار والزهو... وهل هو إلا سفح المال في سبيله تعالى؟ أجل كان ذلك هو صراط خاتم الأنبياء .. اختطه في العيد لأمته، حتى تعرف مكانها الأسمى في معراج الحياة. هكذا نقرأ الصفحة الأولى ثم ننتقل إلى الصفحة الأخرى لنقرأ...
وقضى موسى ثلاثين ليلة على الجبل، وأخّر عودته عشرًا أُخر، فيستغل السامري في بني إسرائيل غياب النور وتأخّر عودته، فيدعوهم إلى عبادة عجل من ذهب، كان صنعه لبهر العيون والنفوس، فتركوا عبادة الله، وركعوا أمام المال، جاعلين من متاع الدنيا وشهوات النفس، قدس أقداسهم، ومطرح أقدامهم وأحلامهم.
ويقلب الزمان من سفره صفحة... فإذا الطرف الآخر... صاحب العجل الذهبي، يسرق العيد، وبه يفتح مدارس التضحيات، لينصّب من نفسه السيد، بين المهد والصخرة، ويمسك بهذه المنطقة الرائدة من قلب الأرض، يفعل بها ما يشاء، وإذا نحن أساتذة الفداء... نغرق في عجول الذهب ومداميك الحجر وأشبار العقار، نعيش على هامش المنطقة، ونحن أهلها، ننظر إليها كما ينظر الأيتام إلى أكف اللئام.
وماذا بعد العيد، أيها الإخوة المؤمنون؟
... فهل نمعن النظر، ونتأمل في معاني هذا اليوم، وفي مدلولاته؟
تحدد الصورة في نفسي خطوطًا أربعة... عدو متجبر، وصديق متحفظ، وعالم مساير، ونحن نزحف وعجولنا الذهبية إلى قاعة المسلخ.
أيها الاخوة
فليكن العيد مناسبة لنا فنتأمل في معانيه، ونمتص منها مناخًا ملائمًا لعمل آخر بعد أن اتضح فساد ما نحن فيه...
في تاريخ الأمم نهضات... وفي تاريخ الأمم يقظات، فمتى تقرع الأجراس، ويصفو صوت المؤذن؟
إن الأمة التي لا تعرف كيف تصرف طاقاتها في وجودها، لا يمكن لها أن تستمر في الوجود، لأن من بسائط علم الحياة، أن يُلفظ الدخيل عليها. والشعب الذي لا يعرف كيف يخلق فرصته بنفسه أو يترك الفرص تهدر ليس عليه أن يعتب على الآخرين، الذين يخططون له فرصة الموت.
أيها الاخوة
إن معركة التحدي المستمر التي جنّد لها العدو كافة طاقاته وجنّد معها كل قوى الشر لخدمته، حتى ينفذ بها أساطيره الدينية، ويجعل منها عنصرًا فوق البشر، تلك المعركة لم نواجهها بسوى الطاقات المبعثرة وأحلام اليقظة المريضة. وإن المعركة الأخرى، معركة الدخول في حضارة القرن العشرين، ومواكبة العالم الجديد، لم نهيئ لها إلا ما نشهد من الأصباغ الناصلة، والهامشيات الكسيحة، والشكليات العارية من أي عمق إنساني.
وبين المعركتين ينخر سوس التفتت، من خلافات داخلية، وانقطاع عن تراث غني، وفقر بأي رؤيا كبيرة، أو طموح شريف.
ويجيء العيد مناسبة صاعقة للتأمل في المصير... أيام العيد تشحذ هممنا، تنذرنا، تصرخ بنا، لماذا سلمتم راية الطموح والتضحية إلى عدوكم واتخذتم من عجله إلهـًا من دون الإله الواحد؟
أيها اللبنانيون
إن العيد أن تكرسوا أفكاركم فيه وتتأملوا فيها، تلك التحديات التاريخية الكبرى التي اجترحها أسلافكم العظام، وقابلوا بها العالم دفاعًا عن الوجود الكبير، تلك التحديات التي ما كان لها أن تكون لولا التضحيات الجسام النابعة من همم رجال يزيحون الجبال.
فلنستلهم في العيد تلك الهمم نداوي بها جراحاتنا، ولننظر في عملية تقييم شاملة لهذه الأوضاع، تقييمًا مقترنًا بقسوة القاضي وبأمل المؤمن وبالاعتزاز الأصيل من ماضينا وحاضرنا لا بقديم صار كالصنم ودخيل كالطرح.
فلننصرف عن التلهي والالهاء، والفساد والإفساد والتصرفات اللامسؤولة، والبعثرات المجنونة. ولنصرف على بناء وطن المجابهة الحق، ما يذهب في دور اللهو والمجون والمجلة الفاسقة، والقلم الداعر، ومائدة القمار التي لا تشبع، والزي المتهتك. ولنضع حدًا حاسمًا لهذه الموجات المهددة جذور أمتنا والتي تنشر وتشجع باسم الحرية، والحرية الصحيحة بريئة من هذا النفاق، إنها اختلاق العدوى.
ولنواسِ مئات الألوف من إخواننا القابعين في خنادقهم ومخابئهم هناك على الحدود خيرًا من أن نرقص على قبر ضحية فادٍ، أو نتزين بدم جندي باسل، سقط لأنه يعرف لماذا يحمل السلاح، ولنأخذ بأيدي أولادنا وفلذ أكبادنا إلى المذبح الإلهي المقدس، مذبح الإعداد للدفاع عن الشرف والحرية والبناء، حتى تسلم لنا وحدة الوطن وصلابته ومنعته وانصهاره، وهل تسلم هذه إلا بإقرار وانفاذ مشروع خدمة العلم؟
وبأن نسلك دروب العلم والتقنية الصحيحة، فقد أصبح واضحًا أن العلم الناقص لا يعادله إلا الجهل الكسيح.
ونسلك طريق إله واحد، فرد أحد، نسلك عندئذٍ طريق الوحدة الحقة، والقيمة المثلى حيث لا غوغائية ولا حتمية، ولا هياكل محنطة، ولا غايات، ولا مصالح شخصية.
عند ذلك نكون قد أعدنا العيد الذي سرقوه منا، وأخرجنا من بيننا العيد الذي ألهونا به، وعندئذ يبارك الله بكم وبأعيادكم وبكل أيامكم، والسلام عليكم.
* رسالة الإمام الصدر بمناسبة عيد الأضحى المبارك 6/2/1971